تسبّبت في خروج الشبكة عن الخدمة 16 مرة في ظرف أقلّ من أسبوعين
لا تثير بيانات “الكهرباء” المحذّرة من “انهيار” الشبكة الرعب في النفوس، بقدر ما تدلّ على خطر استمرار النهج الترقيعي نفسه إلى أمد غير محدود. فـ”الغارق” بتقنين 22 ساعة يومياً، لم يعد يخشى “البلل” بانقطاع ساعتين إضافيتين مرحلياً. إنما، استنساخ طريقة المعالجة القائمة على “عصا” التهديد بالانقطاع الشامل للتيار، و”جزرة” الحلول الموقّتة المهترئة، لا تهدّد بإعدام فرص نهوض قطاع الطاقة فحسب، إنما بحرمان البلد من أي مساعدات خارجية.
في الوقت الذي يتضمن فيه العقد مع شركات تشغيل معامل إنتاج الطاقة بنوداً جزائية في حال تسببها بالخروج عن الشبكة “blackout” لأكثر من 5 مرات في العام الواحد، تسببت وزارة الطاقة في انقطاع عام للشبكة الكهربائية 16 مرة في ظرف أسبوعين. هذا الرقم القياسي الذي يهدد الشبكة، يحرم الكهرباء عن كل لبنان، ويعرض المعامل، وتحديداً منها ذات المحركات العكسية كما في الذوق والجية الجديدين، إلى الكثير من الأعطال، ما هو إلا النتيجة المباشرة للفشل في إدارة ملف الفيول. وبغض النظر عن الأخطاء التاريخية التي أوصلتنا إلى المرحلة التي نحن فيها اليوم، فان الطريقة الغامضة والمثيرة للشبهات في استقدام النفط العراقي وتوزيعه على المعامل، وعدم تأمين قطع الغيار للمعامل، هما السبب المباشر لتراجع الإنتاج وفقدان الشبكة للاستقرار.
الفيول العراقي يذهب هدراً
من الناحية التقنية تخرج شبكة نقل الكهرباء محلياً عن الخدمة في حال تدنى مجموع الإنتاج عن 700 ميغاواط. حيث لا يعود من الممكن ربط المعامل التي تنتج كميات قليلة عليها، لانها تفتقر إلى الاستقرار في الترددات frequencies. وهذا النقص الكبير في الانتاج يعود بحسب مدير العمليات في شركة MEP التي تشغل معملي الذوق والجية الجديدين يحيى مولود إلى سببين رئيسيين:
الأول، يتعلق ببطء آلية استقدام النفط العراقي وسوء توزيعه بين المعامل. حيث أن الفترة الفاصلة بين قدوم البواخر طويلة جداً. فالشحنة السابقة وصلت إلى معملي دير عمار والزهراني فقط، وعندما شارفت الكميات على النفاد وصلت شحنة جديدة إلى معملي الذوق والجية. الأمر الذي يمنع من رفع الإنتاج إلى 1200 ميغاواط، وتأمين الاستقرار على الشبكة، ورفع ساعات التغذية.
الثاني، عدم توفير قطع الغيار للمعامل. فوزارة الطاقة التي عمدت إلى تسديد بعض الفواتير العائدة إلى العام 2020 احتسبت نسبة الـ55 من الفواتير المتفق على تسديدها بالدولار على سعر صرف المنصة. الأمر الذي حرم الشركات من القدرة على إجراء الصيانة الأساسية للمعامل، والاكتفاء بشراء الزيوت والمواد الكيميائية فقط لضمان استمرار التشغيل بالحد الأدنى. مع العلم أن هناك خطورة على المولدات المحتاجة إلى صيانة في حال تشغيلها، مع تردي وضع الشبكة الحالي.
غياب الشفافية يفاقم المخاطر
الأسباب التي تهدد الشبكة وتحول دون رفع الانتاج وتأمين حاجات المواطنين، تطرح علامات استفهام كبيرة عن الطريقة التي تجري فيها إدارة هذا الملف. فـ”الطاقة” التي تعلم جيداً أن حاجة لبنان للفيول تصل إلى 3 ملايين طن سنوياً، “مطت” المساعدة العراقية المحددة بأقل من مليون طن فيول أويل إلى مدة سنة. أي بمعدل يتراوح بين 60 و80 ألف طن شهرياً. وهذه الكمية التي “تحرق” في المعامل لا تكفي أقله لتأمين الاستقرار على الشبكة كما يظهر. وعليه سيدفع لبنان ثمنها من دون أن تعطي أي فائدة. وكان الأجدى بحسب مولود استقدام شحنات “Grade B” للذوق والجية، و”ديزل أويل” لدير عمار والزهراني في الوقت نفسه. عندها يمكن رفع الانتاج إلى ما بين 1100 و1200 ميغاواط. إلا أنه في ظل الآلية المعتمدة للمناقصات النصف شهرية التي تفتقر إلى الشفافية والوضوح والسرعة، سنبقى ندور في “دوامة” اللاحلول نفسها”. ومن موقف سياسي وغير تقني يعتقد مولود أنه “مع هذه السلطة سنبقى نراوح مكاننا ومن المستحيل ايجاد حلول عملية في الأمد القصير”. أما في ما يتعلق بعدم تسديد ثمن قطع الغيار المستوردة بالدولار، فان المعامل كان يجب أن تستفيد من السلفة التي أقرتها الحكومة في 21 آب الفائت بقيمة 225 مليون دولار لتغطية دعم عاجل من مازوت وبنزين لغاية نهاية شهر أيلول. وهذا ما لم يحصل. حيث أن هذه السلفة التي ذهبت بالكامل للمحروقات، لم تستفد منها الكهرباء بدولار واحد. ورغم التقنين في فتح الاعتمادات خلال مدة لم تتجاوز 20 يوماً فقد استنفدت السلفة وجرى رفع اسعار المحروقات قبل مطلع أيلول. لتكون النتيجة لهذه السلفة الاستثنائية ديناً على الدولة بقيمة 112 مليون دولار واستنزاف الاحتياطي بالعملات الاجنبية من مصرف لبنان، وعدم استفادة المواطنين لا من البنزين والمازوت المدعومين ولا من اصلاح المعامل وتأمين قطع الغيار.
فصل البواخر ليس نهائياً
توالي التحذيرات من تراجع الانتاج، وتكبير المرادفات في البيانات، كأن تستعمل الكهرباء تعبير “انهيار شامل في أي لحظة للشبكة، وعدم إمكان بنائها مجدداً”، يثيران الخشية من محاولة الإبقاء على بواخر الطاقة بحجة الظروف الاستثنائية. وذلك بعدما بدأت المعامل العائمة بفك ارتباطها مع الشبكة اللبنانية. وهذا ما سيكون كارثة بحد ذاته. فعدا عن الكلفة المرتفعة للكيلوواط المنتج من البواخر الذي يتراوح بين 14 و15 سنتاً، مقارنة بـ10.5 سنتات في المعامل، فان “الابقاء عليها بعدما كلفت الاقتصاد حوالى 1.4 مليار دولار هو أمر معيب”، من وجهة نظر مولود. فـ”الكلفة التي دفعها لبنان بدل إيجار للبواخر تفوق قميتها بمقدار الضعف. واذا استثنينا كلفة صيانتها بقيمة 350 إلى 400 مليون دولار لانتاج 380 كيلوواط، فان لبنان تكبد عليها خلال 8 سنوات ما يقارب 1 مليار دولار. رقم كان يكفي لشراء معملين عائمين أو بناء معامل تكفي حاجة لبنان. وهو ما يشبه من يأخذ قرضاً من المصرف ليستأجر منزلاً بدلاً من شرائه بالتقسيط”. وبحسب مولود فان أكثر ما كنا نخشاه أن يذهب كل ما دفعناه هدراً، حصل. وبرأيه إمكانية الإبقاء عليها أو التمديد لها بعقد من تحت الطاولة واردة. خصوصاً أن هذه الحكومة تعتبر امتداداً للحكومات السابقة.
لا يكفي الكهرباء ما تعانيه من انهيارات حتى يأتي خروج مركز التحكم الكائن في المبنى الرئيسي عن الخدمة بسبب تفجير مرفأ بيروت لـ”يزيد الطين بلة”. وبفقدان المركز أصيبت الكهرباء بـ”العمى”، ولم تعد قادرة على مراقبة الشبكة وتنظيم عمليات التوزيع بين المناطق، وانتقلت الى التشغيل اليدوي في التوزيع الذي لا يراعي أبسط قواعد السلامة على الشبكة. هذا الواقع سمح بوقوع مراكز التحكم قرب معمل الزهراني بأيدي قوى الأمر الواقع المسيطرة. وقد أعربت الكهرباء في بيانها أن “استمرار وجود محطات تحويل رئيسية خارجة عن سيطرة المؤسسة، يهدد الاستقرار على الشبكة. ذلك أن سحب كميات طاقة من مكان ما أكثر من مكان آخر يؤثر أيضاً على امكانية معادلة التردد. ويؤدي إلى ضعف في الشبكة.