ليست المسألة اسم رئيس الوزراء العراقي، رغم أهميته. إنها تتعلق قبل ذلك بالدولة العراقية نفسها. بقدرتها على لملمة أشلائها ومعالجة تصدعاتها وتضميد جروحها. بقدرتها على إحياء قدرتها على صناعة قرارها ضمن حدودها، وترسيخ التوجه نحو تحول العراق دولة طبيعية في الداخل والخارج. وليست المسألة اسم رئيس الوزراء في لبنان. إنها تتعلق قبل ذلك بالدولة اللبنانية. بقدرتها على إحياء العلاقات بين المكونات، واستعادة القدرة على صناعة قرارها داخل حدودها، ووضع الأساس الفعلي لتحول لبنان دولة طبيعية في الداخل والخارج. الوقت فعلاً من ذهب. لا يملك العراقيون أو اللبنانيون ترف إضاعة مزيد من الوقت. النار في الدار أو على الأسوار وتهدِّد بالدخول. عدم تحويل الانتخابات فرصة للخروج من الركام سيعدّ جريمة تضاف إلى جرائم كثيرة ارتُكبت.
نظلم بلداننا حين نطالبها بأن تكون الانتخابات فيها متطابقة مع مثيلاتها في الديمقراطيات العريقة. ننسى أحياناً أن لتجذُّر الديمقراطية في بلد ما شروطاً ثقافية واقتصادية وسياسية لا يمكن القفز فوقها. ثم إن هناك مَن يعتقد أن فكرة الديمقراطية والانتخابات جزء منها، هي نبتة مستوردة من عالم آخر شهد مخاضات طويلة يوم كنا نهجع في نوم عميق. لكن ذلك لا يلغي أن الاحتكام إلى الناس يشكّل فرصة للتعرف على أحجام القوى في المجتمع وتوجهاتها وتطلعاتها، وأن تكرار تجربة الاحتكام هذه يُفترض أن يكون الكفيل بعملية التصحيح والتشذيب والتنقيح.
تجربتان طازجتان من بلدين لا يستطيعان الاستقالة من الأزمة الإيرانية – الأميركية، ولا من لهب النار السورية المجاورة لهما ومعها الأزمة الإيرانية – الإسرائيلية على الملعب السوري. وربما بسبب هذا الاضطراب الهائل الذي يعصف بالإقليم تتحول الانتخابات إلى فرصة للاحتماء من النار عبر ترميم النسيج الوطني وإحياء القرار الذي يُفترض أن يقيم داخل الخريطة لا خارجها.
من حسنات الانتخابات في البلد المتعدد التكوين أنها تذكِّر كل مكوِّن بحاجته إلى أناس من مكوِّن آخر كي يفوز ويحصل على تفويض وطني بتولي الحكم. والحاجة إلى الآخر تعني الاستماع إليه، وتفهُّم مطالبه وهواجسه، والسعي إلى اللقاء معه في منتصف الطريق أو قربها، وتحديداً في رحاب الدولة.
ما قلناه عن الديمقراطية يمكن أن نقوله أيضاً عن فكرة الدولة. عن هذه الآلة التي يُفترض أن تكون في خدمة الناس. في خدمة التنمية وضمان الحقوق والأمن وفرص التعبير والتغيير. وهذه المهمة صعبة وشائكة لأنها تختلف تماماً عن نهج إحلال ظلم جماعة مكان فرد ظالم. ولا مبالغة في القول إن ثقافتنا الموروثة تتكئ على صورة المنتصر والبطل وإلغاء الخصم، لا على فكرة اللقاء والتنازلات المتبادلة ووضع القرار في عهدة المؤسسات.
علينا أن نتذكر أن دورة الانهيارات الحالية بدأت حين أُسقط نظام صدام حسين، ولم تستطع المعارضة العراقية التقدم سريعاً كبديل جاهز ومقنع. كان الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني يعتبر أن العراقيين أضاعوا ذات يوم فرصة ثمينة كان يمكن أن تجنِّبهم تجربة مجلس الحكم وقرارات بول بريمر بحل الجيش العراقي. قال إن الجنرال جاي غارنر أول حاكم عسكري أميركي للعراق بعد الغزو قال لقادة المعارضة: «أيها العراقيون شكِّلوا حكومة موقتة لتديروا البلد وأنتم المعارضة التي تعاملنا معها، تفضلوا وقوموا بتشكيل الحكومة من جانبكم». وكان غارنر يعتقد أن طالباني يمكن أن يرأس هذه الحكومة، وكان موقف السفير الأميركي آنذاك زلماي خليل زاد يصبّ في الاتجاه نفسه. ويقول طالباني إن واشنطن كانت مستعدة لوضع الملفات الأساسية في عهدة الحكومة الموقتة لكن المطالب المذهبية أفشلت هذا الاقتراح وأدخلت العراق في عهد بريمر وقراراته.
اليوم لا بدّ من التعامل مع الانتخابات العراقية كفرصة بعدما نجحت الدولة العراقية بمساعدة الحلفاء في إبعاد خطر «داعش» والانتصار عليه. وتزداد أهمية اغتنام هذه الفرصة في وقت تلوح في الأفق معالم مواجهة إيرانية – أميركية قد يكون العراق أحد ملاعبها ويدفع ثمنها من استقراره ما لم تتمخض الانتخابات عن قيام حكومة تمتلك الرؤية والإرادة والقرار كي لا يرجع العراق ساحة اختبار وملعباً لتبادل الرسائل الدامية.
أعود إلى طالباني لأنه كان سياسياً بارعاً يعرف حساسيات التركيبة العراقية وحساسيات المنطقة، خصوصاً أنه أقام خلال معارضته عهد صدام حسين في طهران ودمشق وكان صديقاً للعاصمتين. قال طالباني إن طهران تخطئ كثيراً إذا اعتقدت أنها تستطيع إدارة بغداد على غرار ما فعلت دمشق مع بيروت، والنتيجة معروفة.
ذهب أبعد في شرح موضوع الشيعة العراقيين. قال: «أنا أعتقد أن شيعة العراق لن يكونوا أبداً تابعين للشيعة في إيران. أولاً دعْني أقلْ لك أمثلة المرجعيات. عندنا أربع مرجعيات على رأسهم سماحة السيد علي السيستاني. هؤلاء مختلفون مع إيران حول موضوع ولاية الفقيه، فهم لا يريدون ولاية الفقيه، وهذا خلاف كبير. شيء يذكّر بالحركة الشيوعية العالمية والخلاف بين الصين وروسيا. ثانياً هؤلاء المراجع يعتبرون أنفسهم هم مراجع الشيعة في العالم. ثالثاً النجف الأشرف هو (فاتيكان الشيعة) في العالم وليس قم أو مشهد. رابعاً أكثر أضرحة أئمة الشيعة موجودة في العراق، الإمام علي والحسين والعباس والكاظم والعسكريان. هناك واحد فقط مات في مشهد. عندما يذهبون إلى قبره يقولون: يا غريب الدار السلام عليكم. لذلك لا خطر من أن يكون شيعة العراق أتباعاً لإيران أبداً».
أهم ما يمكن أن يفعله العراقيون هو تحويل الانتخابات فرصةً لترميم النسيج والقرار، واسترجاع العراق إلى أيدي العراقيين. استرجاعه من أيدي الدول القريبة والبعيدة ولكي يكون العراق لاعباً لا ملعباً وعنصر استقرار وازدهار في المنطقة. كل تمديد للأدوار غير الطبيعية على أرض العراق هو تمديد لآلامه. الأدوار التي انتُزعت في زمن الملعب العراقي يجب أن تنحسر إلى حدود العلاقات الطبيعية بعد عودة الدولة العراقية. لا عودة إلى الاستقرار من دون عودة الأشياء إلى طبيعتها: العراق للعراقيين، وسوريا للسوريين، ولبنان للبنانيين. إن إدارة عاصمة من عاصمة أخرى هي وصفة واضحة لتمديد الاضطراب الكبير.