ليس جديداً أن يتجاوب لبنان مع عقوبات وزارة الخزانة الأميركية الجديدة التي فُرضت على شخصيّات وكيانات تجارية تابعة لـ «حزب الله»، ولكنّ الجديد هو أن يباشر العراق الاستجابة لها بعدما طاولت شخصياتٍ وأحزاباً ومصارف متّهمة بتمويل الإرهاب، ما فرض إعادة قراءة للمواقف العراقية ومراميها القريبة والبعيدة المدى ما أن اقفلت صناديق الإقتراع في بلاد الرافدين؟
باستثناء مراجع أميركية ودولية وبعض اللبنانيين لم يكن أحدٌ من أبناء المنطقة يتوقع أن يتجاوبَ العراق الى هذه الدرجة مع العقوبات الأميركية التي طاولت شخصياتٍ ومؤسساتٍ عراقية موالية أو صديقة للجمهورية الإسلامية الإيرانية والفصائل المسلّحة الموالية لها، وهي التي سعت الى بنائها واحدة بعد أخرى منذ عقد ونصف في العراق قبل أن تقودها التجربة الى الأراضي السورية لتشكيل وبناء ما يشبهها منذ اندلاع الحرب فيها في آذار 2011 واضافت مواقع قوة ضاربة لها اضيفت الى قوة «حزب الله» أقدم هذه المجموعات في المنطقة بعد مرور 36 سنة على تأسيسه في لبنان عام 1982.
تستند هذه القراءة الى ملخّصات من تقارير ديبلوماسية تبلّغتها مرجعيات سياسية وأمنية منذ أشهر عدة واكبت بداية التحضيرات الجارية للانتخابات النيابية العراقية، في توقيت أريد له أن يعقب مراحل القضاء على المجموعات الإرهابية الأخيرة من عناصر «داعش» واخواتها من اجل إعادة بناء المؤسسات في الدولة العراقية ولا سيما منها العسكرية، على أسس جديدة وتعزيز قدراتها وتفكيك الميليشيات وإبعادها عن السطوة والرعاية الإيرانيّتين بعدما وضعت «داعش» في اقل من اسبوع، امتد من 17 حزيران الى 24 منه، تاريخ الإعلان عن قيام «داعش» على اراضيه وعاصمتها الموصل قبل أن تتوسّع لاحقاً الى الأراضي السورية، وتضع قسماً من اراضيها تحت سيطرتها بعد إلغاء ما يزيد على 600 كيلومتر من الحدود المشترَكة بين البلدين.
ولا يتناسى الديبلوماسيون مضمون تلك التقارير التي تحدّثت عن مجموع الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الحكومة العراقية إبان ولاية رئيسها نوري المالكي التي سمحت بوضع «داعش» يدها على ثلث الأسلحة العراقية الأميركية المنشأ، والتي اضطُرت بعدها القوات الأميركية في أول ايام المواجهة معها الى تدمير قسم كبير منها لمنع وضعها في تصرّف هذه «الدولة» التي توسّعت في اقل من ثلاثة أشهر الى سوريا، وبدأت بإنشاء فروع تعلن الولاء لها في اكثر من دولة عربية وإسلامية وصولاً الى الجزائر وليبيا ونيجيريا ومناطق متفرّقة من المغرب العربي.
كانت النّية في حينه مساعدة العراق على القضاء على الإرهاب وابعاده مجدّداً عن ايران التي تغلغلت من خلال التنظيمات الشيعية فيها بعد إسقاط نظام الرئيس السابق صدام حسين على يد القوات الأميركية في 9 نيسان العام 2003، في حرب انتهت بتسليم العراق لجارتها ايران على «طبق من ذهب» بعدما ذاق الإيرانيون اللوعة من الحرب الإيرانية ـ العراقية التي امتدّت لأعوام عدة وحصدت مليوناً ونصف مليون من القتلى والمعوقين.
في مثل تلك الظروف التي تحكّمت بالتركيبة العراقية أدّى الإنسحاب الأميركي التدريجي من العراق بدءاً من العام 2009 والى العام 2013 الى تعزيز الحضور الإيراني في العراق الذي ملأ الفراغ الذي أحدثته العملية الأميركية، وهو ما أربك القيادة الأميركية الجديدة وحلفاءها في المنطقة فعادت متأخّرة الى المنطقة ومعها بعض الحلفاء الأوروبيين للمساهمة في الحرب على «داعش» وأخواتها، لكنها اضطرت الى إشراك الجيش العراقي في العمليات العسكرية ومعه تسلّلت الى ساحات المعارك وحدات درّبها الإيرانيون وسلّحوها سُمّيت وحدات «الحشد الشعبي»، ومعها عشرات المنظمات العراقية التي صدّرت شبابها ومقاتيلها لاحقاً الى الأراضي السورية في اعتبارها ساحة حرب واحدة ضدّ «الدولة الإسلامية» لتتلاقى والوحدات اللبنانية من «حزب الله» وما بناه الحرس الثوري الإيراني من «وحدات الدفاع الشعبي» السورية المحلّية لتشكّل جيشاً يوازي، لا بل يزيد قوة عن الجيش السوري النظامي.
امام هذه الوقائع التي غيّرت من مجرى الحروب في سوريا والعراق جاءت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتعمل ما في وسعها لهدم كل مشاريع الرئيس السابق باراك أوباما فكانت التغييرات الكبيرة في العراق، وتحديداً تلك التي أبعدت نوري المالكي عن الحكم وجاءت بحيدر العبادي الى السلطة الفعلية فقاد ومعه العالم الغربي الحرب على «داعش» وأعادت القوات الأميركية بناءَ قواعدها في العراق والشمال السوري وأحضرت بوارجَها وحاملاتِ الطائرات الى الخليج العربي وبدأ السعي الى تدمير «داعش» تمهيداً للقضاء على الميليشيات والوحدات الموالية لإيران في مرحلة لاحقة، وهي التي نمت خلال هذه الفترة بطريقة كبيرة وبدأت تفرض سيطرتها على أجزاء من البلاد على حساب القوى الشرعية مقابل ما بناه الأكراد من قوة مستقلة عزّزت اوضاع «كردستان العراق» ومدّت نفوذها الى كركوك ومصادر النفط فيها وهي التي تتمتّع بنسبة عالية من الحكم الذاتي.
لم يطل الأمر على هذه المعادلة، لتنقلب الصورة بإنهاء مشروع «الدولة الكردية» لمصلحة الدولة المركزية في بغداد قبل قليل من مرحلة القضاء على «داعش» لينتقل العراقيون ومعهم الإدارة الأميركية الجديدة وبعض المجتمع الدولي بالتزامن مع عودة السعودية الى بغداد بطاقمها الديبلوماسي ومستشاريها الإقتصاديين والعسكريين الى مرحلة جديدة من المواجهة مع الوحدات الموالية لإيران. فكانت الإنتخابات النيابية الأخيرة مناسبة لتأكيد استقلالية العراقيين وابتعادهم خطوة متقدمة عن طهران، وجاءت العقوبات الأميركية الأخيرة على انصارها لتعزز النهج الذي بدأه التحالف الجديد بين العبادي وكل من مقتدى الصدر ومعه السيد عمار الحكيم الذين يشكلون الكتلة النيابية الكبرى التي تؤهّلهم لتسلّم السلطة في المرحلة المقبلة في مواجهة تكتل آخر يتقدّمه نوري المالكي ومعه هادي العامري.
ويضيف الديبلوماسيون المتابعون للتفاصيل العراقية، انه على هذه الأسس تجرّأ العراق على فرض العقوبات على الأشخاص والمؤسسات المالية الموالية لإيران بما فيها المصارف وسارعت الى تجميد ارصدة رئيس مجلس إداراة أحدها رئيس حزب المؤتمر آراس حبيب، بعدما اتهمته الخزانة الأميركية بتمويل الإرهاب والتعاون مع «حزب الله»، وإقفال نوافذها على البورصات العالمية ومنعها من التداول بالعملات الأجنبية، وتحدثت مذكرات المصرف المركزي الموجّهة إلى المصارف المسموح لها بالعمل في العراق، وشركات التحويل المالي، وشركات التوسط ببيع وشراء العملات الأجنبية، بإيقاف التعامل مع «مصرف البلاد الإسلامي».
ويؤكد الديبلوماسيون انّ العراق بدأ مرحلة جديدة متجاوباً مع العالم الغربي للوصول الى مرحلة تتلاقى فيها الإجراءات الرسمية مع المشاريع الكبرى لإقفال الأوتوستراد المفتوح بين طهران وبيروت عبر بغداد والسعي الى بداية تفكيك الميليشيات العراقية في اطار مخطط قديم يهدف الى أن يشمل لاحقاً الأراضي السورية ولبنان.
ومهما غالى المتفائلون بهذه الخطط، ومهما تباهى المقاومون لها، فإنّ ما تحقق يمكن أن يكون اولى الخطوات على طريق الألف ميل، والتي إن لم تتلاقَ مع ما يكرّسها امراً واقعاً جديداً على الأرض في العراق وسوريا ولبنان، ستبقى المواجهة مفتوحة لتكون المنطقة قد دخلت معها في حقل ألغام جديد ليس صعباً تحديد أوّل النفق فيه لكنّ آخره غامض إن لم يكن مفقوداً وبعيد المدى.