نشتري حديد نشتري بطاريات نشتري أدوات منزلية
عبثاً حاولوا في سوريا وفي لبنان أن يقنعونا في “الخطابات” بمقولة “شعب واحد في دولتين”، لكن الممارسات التعسفية في البلدين، في حقّ الشعبين، تُنذرنا بأننا ذاهبون الى نفس المصير! جوع وقلق وهجرة وموت أمام أبواب المستشفيات، وساسة ما زالوا يخالون أن الله خلقهم وكسر القالب وبهم يجب أن يُقسم “القطيع”، وحديد بات “ينصهر” في بوتقات الفساد. هو حديد مركباتنا وباعة خردة و”سكراب” يقومون، من حيث يدرون أو لا يدرون، بأدوارٍ شتى على مساحة البلدين الفاسدين. هو الحديد المطلوب سورياً وهي الحاجات الضرورية المطلوبة شعبياً تحت يافطة: نشتري حديد نشتري بطاريات نشتري “كاتاليزور” ونشتري أدوات منزلية.
طار عقل اللبنانيين البارحة. فالمنقوشة، ترويقة الفقراء، قد يُرفع عنها الدعم. والتغذية بالكهرباء الى انخفاض لأن “الدولة” لا تستطيع أن تتحمل! فهل رأيتم بربكم، في عمركم، دولة ترمي الحمل الثقيل على المواطنين وترتاح؟ أمرٌ حقاً غريب عجيب. فهناك في سوريا يتذمرون ونحن في لبنان نتذمر. فلنراقبهم، بما أننا، كما يقال، “لاحقين بعضنا عالدعسة”، علّنا نكتشف أكثر ما ستؤول إليه مصائر “شعب واحد في بلدين” ما دامت العقلية الفاسدة التي سادت ودمرت وعاثت شبه واحدة.
بعيداً قليلاً عن “المنقوشة” والمقولات الشاعرية الفارغة التي حددتها “معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق” بين البلدين، تتردد هناك في سوريا عبارة تجارة “السكراب” ويكثر الكلام هنا عن تجارة “الخردة” وتجميع الحديد والألومنيوم والنحاس وبيعه الى أحدٍ ما، في مكانٍ ما. وآخر الخردة المجمعة الريغارات “المشفوطة” من شوارع لبنان، لتمرّ ربما في “البُوَر” السورية، وتنتهي في معامل الحديد المحسوبة على السلطة السورية.
في أيام “القلة” أصبحت تجارة السكراب – الخردة “ثروة”، فكلنا نعلم أن سوريا واقعة تحت عقوبات قانون قيصر الذي يمنع تصدير كثير من المواد اليها والحلّ كان: الحدود اللبنانية – السورية حيث يلفت خبراء اقتصاد في سوريا الى رصد مرور السكراب الى سوريا عبر مرفأ بيروت والمعابر الحدودية بين البلدين. المرفأ أصبح ردماً وطبيعي أن يتأثر مرور الحديد المستورد عبر البوابة اللبنانية. والحلّ؟ شفط الحديد الموجود في لبنان. شفط الريغارات وسيارات الكسر أو ربما السيارات المسروقة وهنا، يُطرح السؤال حول المكان الذي انتهت إليه مئات السيارات التي تضررت بالكامل إثر انفجار مرفأ بيروت.
نقلب بين صفحات السوشيل ميديا. مئات الصفحات تُعلن: نشتري سكراب… نشتري خردة… نشتري حديد ونحاس… والمعلنون، بغالبيتهم، يملكون “بُوَراً” يُفككون فيها “المحصول” ويبيعون مكوناته قطعاً و”فراطة” قبل أن ينتهي الهيكل غالباً في سوريا. نجول بين “البُوَر” فنسمع من يقول الرديات “فارس وولادو سويي عندو بورة مرضية القطعة اللي بدك ياها بلحظة بيفرطلك هيي”. لكن فلنذهب أبعد من الردية ولنسأل أبو بلال الذي يشتري ويبيع خردة عن أحوال تجارة الخردة ومسارها؟ يجيب: “أدواتنا مكبّر للصوت وبيك آب ودوران في الأرجاء بحثاً عن غسالة خرجت إلى التقاعد أو براد “منزوع” وكل ما هو معطل نشتريه. ندفع ثمن كيلو الحديد 1500 ليرة لبنانية وثمن كيلو النحاس الأحمر 45 ألفاً. ونبيع البضاعة الى “البُوَر” حيث يُصار الى زنة البيك آب عند دخوله الى بورة التجميع وزنته بعد إفراغه من الخردة والفارق نقبض عليه 2100 ليرة بدل كل كيلوغرام من الحديد. وتعود البُوَر وتبيعه الى طالبيه”.
لا يعرف، ولا يريد أن يعرف، المعلم بلال أين ينتهي مصير الحديد الذي “يُلملم” من أزقة لبنان وأحيائه وشوارعه. لكن ما يعرفه هو أن “الشغل زاد” في الفترة الأخيرة. فاللبنانيون باتوا متعبين ومحتاجين ويبيعون الأغراض حتى التي لا يُستغنى عنها كي يحصلوا على بعض المال لتأمين مأكلهم. لذا نعمد الى إصلاح هذه الأغراض وإعادة بيعها مجدداً، لأن هناك من باتوا، في المقابل، يشترون أجهزة مستعملة. تغيّرت حال اللبنانيين في عام كثيراً. هذا هو تحليل بائع الخردة. اللهم أن يتذكر ذلك من يستلمون الأحوال ويمسكون بالرقاب في البلاد الهائمة العائمة على فساد.
نلحق سوريا “على الدعسة”. فهناك يسرق “رجال النظام” الحديد والأقوى هم من يسيطرون على “الحديد الخردة”. وهنا يسرقون الريغارات ويبيعونها والأقوى هو من يستطيع أن يتجنب السؤال والعقاب. تاجر السكراب ( أي الخردة) السوري أبو رياض موجود حالياً في سويسرا. هو مقيمٌ فيها، لكنه يملك بورة “كسر سيارات وبيع القطع” في حمص. يقول: “أشتري السيارات بحسب المواصفات الدولية وأفككها الى قطع وأرسلها الى سوريا في كونتينرات (مستوعبات). أما الحديد فيُباع على حدة، ومثله الدواليب و”الشاسيه” والبطاريات والأبواب والتابلوات والديبوات. أفرط السيارة وأشحنها قطعاً”.
أبو رياض يشتري ويبيع، من سويسرا الى سوريا، حسب المواصفات الدولية. تُرى، تحت أي مواصفات تجرى عمليات البيع والشراء بين سويسرا الشرق وسوريا؟ سؤالٌ يُطرح في بال كل من سُرقت مركبته تحت عين الشمس في لبنان وفقد كل أثر لها وكأنها “فص ملح وذاب”.
نعود الى التاجر السوري المقيم في سويسرا لسؤاله عن قانون “قيصر”: فكيف يُسمح بدخول “كونتينر” محمل بالحديد وقطع السيارات في ظل العقوبات المفروضة؟ يجيب: “أقوم بذلك عبر شركات شحن كانت تنقل المستوعبات الى لبنان وتُدخلها الى سوريا عبر الحدود اللبنانية – السورية المشتركة. أما عمليات الشحن المباشرة الى سوريا فتتطلب موافقة خاصة من الأمم المتحدة”. ويستطرد بالقول: “تأثر العمل كثيراً في الفترة الأخيرة بسبب كورونا وأزمة لبنان وسوريا، حيث “تهتري” المركبة ولا يغيّر صاحبها قطعة معطلة، كما أن التهافت على الحديد تراجع”.
ما قاله أبو رياض يناقضه كلام كثير من تجار الخردة و”السكراب” في البلدين بدليل كثرة الطلب على الحديد في سوريا، والسعي الى الحصول عليه من خلال طرق غير شرعية بسبب عقوبات “قيصر”، حتى أن “محمد حمشو”، صاحب شركة “حمشو الدولية” الأكبر في سوريا، هو من ينال أو كان ينال 99 في المئة من الحديد “السكراب” في سوريا واسمه موجود على لائحة العقوبات. وحمشو هذا يبدو وكأن إبط النظام السوري قد ارتفعت عنه، وبدأ يواجه بعض المشاكل في الفترة الأخيرة. بعيداً من مصير رجل الأعمال هذا يكثر الكلام عن السرقات المنظمة من قبل رجال النظام في كل القرى التي دمرت في الحرب السورية، حيث يعمل هؤلاء على “فكفكة” الأبواب والنوافذ وحتى استخراج قضبان الحديد من الاسقف المدمرة وبيعها خردة. وفي دربهم يمارسون ظاهرة “التعفيش” من خلال سرقة كل ما يجدونه أمامهم وبيع البضاعة في بُوَر واسعة. ألا تتذكرون ماذا فعل الجنود السوريون في لبنان؟ ألا تتذكرون مشهد “تعفيشهم”، اي شفط “العفش” من بيوت اللبنانيين الهاربين من بطشهم؟ ألا تتذكرون كيف أخذوا البرادات والغسالات والحنفيات والأبواب والنوافذ وهم يغادرون؟ إنهم يمارسون اليوم نفس النهج في بلادهم. وهذا ما حاولوا أن يمارسوه من جديد، مع “أصدقائهم” في لبنان بعد انفجار بيروت.
حتى على “الجثث” يحتفلون. الرماد يُصبح لدى الأنظمة الفاسدة قوتاً. فها هم، “رجال الفساد” يقتاتون من سرقات الحديد و”التعفيش” ويرمون بما تبقى من خردة الى شعبين أصبحا بفضلهم في أحلك أوقاتهما. فاللبنانيون بدأوا في البحث عن “الخردة” ويكاد يُصبح كل لبنان “سوق أحد”، وأصبحت ثياب الباليه مطلباً في الأعياد المباركة والمنتجات الغذائية الأرخص… أطيب!
بُوَر الخردة في لبنان تنتشر قرب المناطق الصناعية والمرافئ، ومن يقصد ميناء طرابلس يرى عشرات منها في الجوار، أما اليوم فأصبحت مطلباً في الأحياء السكنية. أصبحت الدواليب العتيقة جديدة لشعبٍ طالما حسبوه “مزنطر”!
أنصتوا جيداً. ثمة من ينادي “نشتري حديد نشتري بطاريات نشتري أدوات كهربائية”. هذه التجارة، التي طالما اعتقدنا أنها تُخلصنا من أغراض لم تعد قابلة للإستعمال، هي الآن ضرورة في بلد عائم على فساد، وهي أيضاً ضرورة لبلد مجاور، قيل عنه شقيق، للحصول على مادة الحديد والنحاس. ألم تسمعوا من يخبركم عن سرقة “كاتاليزور” السيارات في لبنان وشحنها في اتجاهات أبعد من حدود لبنان؟ باعة الخردة بمعظمهم سوريون، اما أصحاب البور في لبنان فمعظمهم لبنانيون، أما مآل الحديد فمعظمه يذهب الى سوريا – الأسد. الخردة التي كنا ننظر الى العاملين فيها “من فوق” تجارة مربحة وتعوم على كثير من “علامات الاستفهام”.
إنتبهوا أكثر الى سياراتكم لأننا دخلنا في الوقت الأصعب وما عاد لدولتين فاسدتين، إما من خلال “غض النظر” أو الحاجة الماسة الى حديد، إلا مركباتنا حلّاً. وإذا كنا نحن وجدنا، وسنجد بعد أكثر وأكثر، في الخردة ملاذاً فإن من هم أكبر منا فيجدون في ما تبقى لدينا حلاً لحاجياتهم في زمن العقوبات. وشتان ما بين سويسرا وسويسرا الشرق.
إبحثوا في صفحات الخردة عبر صفحات التواصل الإجتماعي. إبحثوا عن “قطعة سيارة”. ولا يغيب عن بالكم أن تكون سيارات بعضكم تباع قطعاً فيها. فنحن في الوقت الصعب وفي أصعب الأوقات يُصبح كل شيء مباحاً.