إما أنه يخدع نفسه، وإما أنه يحاول الالتفاف على حقائق الأمور ويحاول خداع الآخرين عندما يطلق وزير الخارجية الأميركي جون كيري تصريحا يقول فيه: «إن رئيس الوزراء العراقي الجديد قد تجاوز التحدي الطائفي». فلو أن حيدر العبادي قد تجاوز التحدي الطائفي لاستطاع مواجهة الضغوط الإيرانية وبادر إلى تسليح العشائر العراقية في محافظتي الأنبار والرمادي التي من المعروف أن كل أبنائها من السنة العرب الذين لولا إقصاؤهم وتهميشهم منذ سقوط النظام السابق في عام 2003 واعتبارهم «الفئة المهزومة» لما كانت هناك هذه البيئة الحاضنة للإرهاب، ولما تمدد تنظيم «داعش» ولا يزال يحقق انتصارات حتى الآن.
المثل يقول: «إن كنت تعرف فتلك مصيبة، وإن كنت لا تعرف فالمصيبة أعظم»، والمفترض أن وزير خارجية الدولة الأكبر في العالم، والتي لها كل هذه المصالح الاستراتيجية في العراق وفي الشرق الأوسط كله، يعرف أن بلاد الرافدين تغرق في الطائفية حتى أنفها، وأن حيدر العبادي مكبل بهذه الطائفية باعتباره أحد قادة حزب الدعوة ولا يستطيع، حتى إن رغب في هذا وأراده، إحداث أي تغييرات فعلية حقيقية وجذرية تجعل جون كيري الذي يبدو أنه معجب بمقولة «إنه متفائل بطبعه»، فرئيس الوزراء العراقي الجديد قد تكون لديه نيات حسنة، وربما قام ببعض المحاولات «الطيبة»، لكنه لم يستطع تحقيق إلا بعض التغييرات التجميلية الجانبية؛ فالتغول الطائفي لا يزال على ما هو، والسنة العرب لم يطرأ على أوضاعهم المأساوية أي جديد، ونوري المالكي لا يزال، كما يبدو، هو من يقود القاطرة، ولكن من المقعد الخلفي.
إنه لا يمكن تصديق أن جون كيري الذي أمضى في فنادق هذه المنطقة وبيوت ضيافتها خلال الفترة الأخيرة من عهد رئيسه باراك أوباما أكثر مما أمضاه في بيته بواشنطن، لا يعرف أن القرار في العراق وفي سوريا هو قرار إيراني بالنسبة لكل صغيرة وكبيرة، وأن التلكؤ في تسليح العشائر العراقية وعشائر الأنبار والرمادي وراءه إيران، وأن مرشد الثورة علي خامنئي الذي لهج الرئيس الأميركي بمديحه والتغني بشجاعته وبأنه إذا وعد لا يخلف، هو الذي يصر على استمرار إقصاء العرب السنة العراقيين واستمرار تهميشهم، وأنه هو صاحب نظرية أن «الأمر» قد وصل إلى أيدي «الشيعة» بعد كفاح طويل، وأنه لا يجوز التفريط إطلاقا في هذا الأمر.
لو أن حيدر العبادي الذي لا شك إطلاقا في أنه إنسان طيب ولديه نيات حسنة ويتحلى بنزعة وطنية لا يستطيع كائن من كان إنكارها، قد استطاع فعلا تجاوز التحديات الطائفية التي تواجهه، كما قال كيري، لكان بادر، ومنذ اللحظة التي أصبح فيها رئيسا للوزراء، إلى فتح ملفات سلفه المالكي الذي حول العراق خلال سنوات حكمه الثماني إلى «مزرعة» لـ«حراس الثورة» وإلى مجال حيوي إيراني سياسي وعسكري واقتصادي، ولكان سأله عن الأموال التي بددها والموبقات السياسية التي ارتكبها ضد العرب السنة وضد الأكراد السنة أيضا، فأصبحت هناك هذه الحاضنة «الديموغرافية» التي استقطبت «داعش» وجعلت هذا التنظيم الإرهابي يتجذر على هذا النحو في أهم المناطق العراقية وجعلت اقتلاعه منها يحتاج لحرب ضروس قد تستمر، كما قال الرئيس الأميركي باراك أوباما، لسنوات طويلة.
إن هذا الرجل الطيب، حيدر العبادي، يعرف مثله مثل كل قادة حزبه ومثله مثل كل المسؤولين والمتابعين العراقيين، أن المائة مليار من الدولارات التي اختفت في السنوات الأربع الأخيرة من عهد المالكي قد ذهبت إلى المجهود الحربي لنظام بشار الأسد، إنْ مباشرة، وإنْ عبر إيران، ثم إن رئيس الوزراء العراقي الذي من غير الممكن التفكير بغيره في هذه المرحلة الانتقالية الخطيرة، يعرف تمام المعرفة أن الخمسين ألفا من الأسماء الوهمية التي اكتشف أنها تشكل عبئا ثقيلا على موازنة وزارة الدفاع هي الأسماء الوهمية لمنتسبي أكثر من أربع وثلاثين فرقة من الفرق المذهبية العراقية والإيرانية والأفغانية والباكستانية التي جرى تصديرها إلى سوريا بأوامر من الجنرال قاسم سليماني إبان حكم رئيس الوزراء السابق، والتي لا تزال تقاتل في سوريا، وهذه مسائل غدت معروفة ومكشوفة، وكان قد تغنى بها الرئيس السوري الذي طلب من أتباعه، بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة «الديمقراطية جدا» حسب فلاديمير بوتين، ألا يتوجهوا بالتهنئة إليه، بل إلى مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي!!
ولذلك وحتى يثبت أنه قد تجاوز التحدي الطائفي كما قال جون كيري، فإنه على حيدر العبادي أن يبادر فورا.. والآن.. الآن وليس غدا لسحب كل الفرق المذهبية العراقية وغير العراقية التي تقاتل دفاعا عن نظام بشار الأسد وأن يقطع كل خطوط إمداد هذا النظام عبر العراق، إنْ من إيران وإنْ من غيرها.. وأن «يشرب حليب السباع» ويتحلى بالشجاعة المطلوبة في هذه الأوقات الصعبة ويبادر لتسليح العشائر العراقية خلافا لتعليمات قاسم سليماني وتوجيهات المرشد علي خامنئي.
كان المالكي قبل أيام في زيارة رسمية إلى لبنان، باعتباره نائبا لرئيس الجمهورية العراقية، لم يلتقِ خلالها إلا زعيم «حزب الله» حسن نصر الله، ورئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، ونائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى عبد الأمير قبلان، وخلال هذه الزيارة «الفاقعة» بطائفيتها ومذهبيتها أدلى رئيس الوزراء العراقي السابق بحديث لفضائية «المنار» الناطقة بلسان صاحب هذا الحزب ورئيسه قال فيها، إنه تم توجيه ضربة لـ«الطرف الآخر»، والمقصود هو السنة العرب في العراق وفي هذه المنطقة، ولكن يبدو أنها لم تكن الضربة القاضية، ولذلك فإنه لا بد من ضربة ثانية، وهذا يعني أنه يجب إلقاء القبض على هذا الرجل فور عودته إلى العراق وإحالته إلى المحكمة ذاتها التي أحيل إليها صدام حسين فأصدرت بحقه حكم إعدام جرى تنفيذه بحضور رئيس الوزراء السابق في يوم عيد الأضحى.
إنه غير مطلوب من حيدر العبادي أن يكون انتحاريا، وأن يأتي بما لم يستطعه الأوائل، ولكن فإن عليه بالتأكيد أن يبدأ بالخطوة الأولى على طريق الألف ميل، كما قال زعيم الصين ماو تسي تونغ، والخطوة الأولى هي تسليح العشائر العراقية التي من دون الاستعانة بها لا يمكن دحر تنظيم داعش الإرهابي أو إيقاف تمدده على الأقل، ثم تخفيف «الحجر» الإيراني عن العرب السنة، وهي ملاحقة المالكي بتهمة تبديد المائة مليار دولار التي ذهبت إلى مجهود الدفاع عن نظام بشار الأسد، وهي أيضا البدء بسحب الفرق العراقية من سوريا التي أمعنت بعيدا في ذبح «الأشقاء» من أبناء الشعب السوري الذين ثاروا ضد نظام استبدادي وقاتل أرادوا التخلص منه كما تخلص العراقيون وإنْ بمساعدة أميركية سخية من صدام حسين ونظام صدام حسين.
ثم، وفي النهاية، لا بد من الإشارة إلى أن جون كيري عندما قال إن حيدر العبادي قد تجاوز التحديات الطائفية فإنه أراد تبرير مواقف رئيسه باراك أوباما تجاه إيران التي يواصل الإصرار على أن لها دورا رئيسيا يجب أن تلعبه في المنطقة، والتي يواصل المراهنة على أنها مقابل التسليم لها بهذا الدور لا بد أن تبادر إلى تنازلات مقنعة بالنسبة لمشروعها النووي وقدراتها النووية.