Site icon IMLebanon

هل يتنحى عباس بعدما خذله ترامب؟

 

 

في حرب حزيران (يونيو) 1967، ظهرت أسماء عسكريين إسرائيليين بينهم أوزي ناركيس، الجنرال الذي اقتحم القدس الشرقية على رأس فرقة المدرعات. ويبدو أن تلك العملية السريعة أفرحت حاخامات إسرائيل، بدليل أنهم طالبوا بترفيع الجنرال ناركيس، بحيث يصبح مساوياً في الأهمية لوزير الدفاع موشيه دايان ورئيس الأركان إسحق رابين.

وبدلاً من الاستجابة لذلك المطلب، قررت الدولة الإسرائيلية الحد من طموحات عدد من العسكريين، الأمر الذي أدى الى تهميشهم. وهكذا نُقِل ناركيس الى الولايات المتحدة، حيث التحق بجامعة هارفارد طالباً زائراً. وصدف في ذلك الحين أن كان هنري كيسنجر يرأس قسم الدراسات التاريخية في الجامعة.

وحدث أثناء مراجعة الحقبة الاستعمارية في الشرق الأوسط، أن سأل كيسنجر الجنرال ناركيس عن تصوره لمدى قدرة الجيش الإسرائيلي على البقاء في الضفة الغربية وصحراء سيناء ومرتفعات الجولان.

واستعان الجنرال في رده بمقولة نسبها الى نابليون بونابرت، مفادها: إن الجيش الذي يحتل بلداً آخر من دون أن يلقى مقاومة خلال خمس سنوات، يمكنه تثبيت سيطرته طوال خمسين سنة.

واعترض هنري كيسنجر على تلك المقارنة، بالقول: إن حصيلة الخطأ في اعتماد هذه النظرية هي أن إسرائيل والولايات المتحدة تصبحان في جهة… بينما تصبح كل دول العالم في جهة أخرى!

هذا النقاش حصل في وقت كان الأكاديمي الألماني الأصل يحاول الظهور بمظهر الأستاذ الموضوعي المنصف. ولكن عندما اختاره الرئيس ريتشارد نيكسون ليكون وزير خارجيته، كشف عن وجهه الحقيقي أثناء المفاوضات التي أعقبت حرب 1973. ولقد اختصر نتائج جولاته المكوكية في ذلك الوقت بالقول: «أقصى ما حققته في هذا المجال هو أنني أنقذت إسرائيل من نفسها».

في هذا السياق، يمكن القول إن القرار الذي اتخذه الرئيس دونالد ترامب في شأن نقل السفارة الأميركية من تل ابيب الى القدس وضع بلاده وإسرائيل في جهة… بينما وقفت دول العالم في جهة أخرى.

صحيح أن عدد الرافضين دعمَ القرار لم يزد على 128 صوتاً (ما يشكل ثلثي أعضاء الجمعية العامة)… ولكن الصحيح أيضاً أن الدول التي امتنعت عن التصويت، وعددها 35 دولة، اعتُبرت في قائمة الدول المعترضة أيضاً. والسبب، كما عزاه أحد الأعضاء، يرجع الى تهديد السفيرة الأميركية لدى الأمم التحدة نيكي هايلي بوقف المساعدات المالية والاقتصادية عن الدول المعارضة. وقالت ما خلاصته أن واشنطن ستعيد النظر في الأموال التي تدفعها لدول تعارضنا. وكانت بهذا الكلام تخضع سياسة أميركا الخارجية لمبدأ الربح والخسارة، دونما اعتبار لشرعة الأمم المتحدة، والقيم المناقبية التي صدرت عن مؤتمر سان فرانسيسكو (26 حزيران- يونيو- 1945).

وفي تعليقه على كلام السفيرة، قال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية، إنها تسوق أفكار رجل الأعمال ترامب، متجاهلة حقوق الفلسطينيين وكل ما ترمز اليه مدينة القدس بالنسبة إلى الإسلام والمسيحية.

ومن الأمور المستهجنة التي كشفت عن صلافة المسؤولين الإسرائيليين، قول نتانياهو إن «الأمم المتحدة ليست سوى بيت للكذب». في حين وافقه وزير دفاعه، واصفاً حصيلة التصويت بأنها «خرقة بالية ستُرمى في مزبلة التاريخ.» علماً أن إسرائيل، من دون كل الدول الأخرى، وحدها ولِدت من رحم الجمعية العامة في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1947. ولم تكسب شرعيتها، وتنخرط في المنظمات التابعة للأمم المتحدة قبل سنة 1949، أي بعد مرور فترة على الحرب التي شنتها بهدف تأكيد وجودها في المنطقة.

وتحضرني في هذه المناسبة واقعة ديبلوماسية كان بطلها المرحوم الدكتور جميل بارودي، سفير السعودية لدى الأمم المتحدة. وملخص تلك الواقعة أن وزير خارجية إسرائيل ابا ايبان ألقى كلمة شكر من منبر الجمعية العامة، خصّ بها الذين صوّتوا على إعلان عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة. ويبدو أنه استرسل في إظهار فصاحته وطلاقة لسانه باللغة الإنكليزية، مختتماً كلمته بشكر إله إسرائيل «يهوا» الذي أعاد لشعبه المختار الأرض الموعودة.

ولما وصل ايبان الى هذا المقطع من خطابه، قاطعه الدكتور بارودي قائلاً: لم أكن أعلم أن «يهوا» يملك شركة بيع عقارات… وقيل حينذاك إن رئيس الجلسة طلب عدم تسجيل ملاحظة الدكتور بارودي في المحضر الرسمي.

المهم أنني سمعت روايات مختلفة عن هذا الحادث الديبلوماسي الطريف. ولما استوضحت الدكتور بارودي في مقهى الأمم التحدة، عن حقيقة ما حصل، لمست أنه يريد الإيحاء بأنه مقتنع بالذي قاله. ولكنه لم يجزم أمامي ما إذا كان قد ألقى هذه العبارة داخل قاعة الجمعية العامة… أم خارجها!

بعد انقضاء 69 سنة على القضية الفلسطينية، أعادها قرار الرئيس دونالد ترامب الى المربع الأول عندما خرق القانون الدولي ليعلن نقل سفارة بلاده من تل أبيب الى القدس.

ويرى المراقبون أن ترامب لم يكن يتوقع ردود فعل غاضبة كالتي اجتاحت القدس ونابلس والبيرة والخليل، الأمر الذي وضع المتظاهرين في مواجهة يومية مع قوات الاحتلال. كذلك توقع الرئيس محمود عباس أن يتراجع الرئيس الأميركي ويحدد القدس الغربية عاصمة لإسرائيل. ولكنه لم يفعل لأنه يؤمن بالقدس الموحدة عاصمة أزلية لدولة اليهود.

ويُستدَل من تجاهل كل صيغ الإنقاذ، أن واشنطن لم تعد في وارد الانشغال في البحث عن قضية لا تريد إسرائيل أن تكون شريكة في حلها.

وكان من الطبيعي أن تستغل الحكومة الإسرائيلية هذا الوضع المتردي لتعلن على لسان وزير الإسكان والبناء يؤاف غالانت، عن خطة لتشييد مليون وحدة استيطانية خلال العشرين سنة المقبلة.

واعتبرت السلطة الفلسطينية هذا المشروع الاستيطاني بداية تداعيات قرار ترامب الذي يعرف، من صهره وسفيره، أن هذه المستوطنات ستجعل من «القدس الكبرى» جسماً منفصلاً عن محيطه الفلسطيني. وبهذا يكون الرئيس الأميركي قد ساعد إسرائيل، بواسطة قراره الهادف، على تخطي كل العوائق القائمة في طريق نسف قرار التقسيم الذي يمنح الشعب الفلسطيني حق إقامة دولة مستقلة فوق أرضه التاريخية.

يقول عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات، إن الرئيس ترامب لعب دوراً مزدوجاً أثناء اتصاله بعباس، ليعده «بتقديم شيء تاريخي غير مسبوق!». وتصور عباس في حينه أن الرئيس الأميركي قد يتراجع عن اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل… أو أنه سيوقف الاستيطان في الضفة الغربية… أو أنه لن يأمر بإغلاق مكتب منظمة التحرير لدى واشنطن. ولكن هذه الافتراضات لم تكن أكثر من توطئة لإجراءات عقابية كان من نتيجتها استئناف بناء الكتل الاستيطانية وإلغاء اتفاقات أوسلو.

عقب تنحي الوسيط الأميركي المنحاز، باشر الرئيس الفلسطيني محمود عباس البحث عن بديل أوروبي محايد يقبل بملء فراغ الدور الأميركي. وبسبب التعاطف الذي أظهره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع القضية الفلسطينية، كان لا بد من الوقوف على رأيه. وذكرت الصحف الفرنسية أن الرئيس ماكرون رفض اتخاذ قرار تعتبره واشنطن مخالفاً لموقفها بحيث لا يظهر كأنه يعوّض عن تغيّب الوسيط السابق. ولكنه وعد بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في الظرف الملائم. واكتفى أبو مازن بهذا القدر من التطمين السياسي، كونه يعرف أهمية الدور الأميركي داخل الحلف الأطلسي، وأهمية الصوت اليهودي في الانتخابات. وهو أعلى الأصوات بين كل دول الاتحاد الأوروبي.

صدر في لندن قبل مدة كتاب من تأليف الكاتب الموضوعي أفي شلايم، عنوانه «الجدار الحديدي.» وفيه يبيّن بالوثائق والوقائع الدامغة الأساليب التي استخدمها المفاوضون الإسرائيليون من أجل نسف كل مقترحات السلام منذ إعلان دولتهم سنة 1947.

ومن المؤكد أن قرار ترامب ينسجم مع سياسة المسار، الذي يفضي الى إسقاط كل القرارات الدولية المتعلقة بدولة فلسطين. ومعنى هذا أن المباحثات ستتوقف خلال المرحلة المقبلة، بانتظار نشوء وضع جديد أقرب الى الكفاح المسلح منه الى استئناف المفاوضات. ويتوقع المحللون انتعاش المواقف الفلسطينية الداخلية المعارضة للخط السياسي الذي انتهجه محمود عباس، والذي قاد الى نهاية أشبه بالهزيمة. في حين لا تستبعد الصحف حدوث مفاجآت تقوم بها «حماس» و «الجهاد الإسلامي» و «القسّاميون» وكل العناصر المؤمنة بأن الدولة الفلسطينية لن تتحقق إلا من طريق ممارسة القوة والعنف، تماماً مثلما أوصى ماوتسي تونغ أحمد الشقيري يوم زاره للاسترشاد بنصائحه!