إذا تمّ اعتبار الجريمة الإرهابية التي استهدفت «شارلي إيبدو» ١١ أيلول جديدة، فـ ١١ أيلول الأساسية أدّت إلى ردِّ فعلٍ أميركي تُرجِم بإسقاط نظامَي طالبان وصدام وإخراج الجيش السوري من لبنان تنفيذاً للقرار 1559 والتأسيس للربيع العربي، وبالتالي ما هي مفاعيل ١١ أيلول الجديدة؟
فرنسا اليومَ مجروحة وموجوعة، وتواجه خطراً داخلياً جدّياً في حال لم تتحرّك سريعاً وتثبت جدّيتها وقدرتها على مواجهة الإرهاب على أرضها وفي الخارج، وهذا الخطر يتمثل باليمين المتطرّف الذي سيستثمر ما حصل من أجل تعزيز رصيده والتأكيد على وجهة نظره لجهة وقف الهجرة، وتحديداً الإسلامية، واتخاذ إجراءاتٍ صارمة بحق الجاليات الأجنبية، والانسحاب من الاتحاد الأوروبي إلى داخل فرنسا وغيرها من الإجراءات التي تجعل فرنسا تنكفئ إلى داخل حدودها.
وأيّ متابعة لاستطلاعات الرأي تُظهر صعوداً ثابتاً ومتواصلاً لـ»الجبهة الوطنية» التي تضع نصبَ عينيها الانتخابات الرئاسية في العام ٢٠١٧، حيث إن أحداثاً من هذا النوع تعزّز فرصها، لأنها تضاعف مخاوفَ الفرنسيين وقلقَهم على مستقبل بلدهم.
ومع دخول الجبهة الوطنية للمرة الأولى إلى مجلس الشيوخ في الانتخابات الأخيرة في أيلول الماضي تصاعدت الأصوات الفرنسية المحذِّرة من التحوّلات الجَذرية في المجتمع الفرنسي الذي بدأ يميل تدريجاً نحو التطرّف، الأمر الذي يجعل الأكثرية الشعبية مع أيّ إجراء تتخذه الدولة لقطع الطريق أمام أيّ مزايدة يمينية متطرّفة، وقطع الطريق لا يكون بتغيير فرنسا سياستها الداخلية والخارجية، بل بالتأكيد على هذه السياسة وتفعيلها وتطويرها.
وفي موازاة الإجراءات السريعة التي ستتخذها الدولة لتهدئة روع الفرنسيين الذين بدأت ردود فعلهم تخرج عن الإطار السياسي وتنزلق إلى توسل العنف، تؤشر المواقف التي صدرت عن الرئيس الفرنسي والمسؤولين الفرنسيين أنّ الدولة ماضية في سياستها ولا توجد أيّ قوة يمكن أن تدفعها إلى التراجع عن هذه السياسة.
ومعلومٌ أنّ فرنسا لعبت دورَ رأس الحربة في حرب الخليج الثانية، وفي المواجهة النووية مع إيران، وأخيراً في التحالف الدولي ضدّ الإرهاب، فضلاً عن أنّ مواقفها كانت الأكثر تشدّداً حيالَ النظام السوري، وبالتالي على رغم أنّ القيادة كانت وما زالت أميركية بامتياز، فإنه لا يمكن التقليل من الدور الفرنسي الذي كان بمثابة الشريك-الحليف.
ولعلّ الفارق الأساس بين ١١ أيلول ٢٠٠١ واليوم هو التحوّل في النظرة الدولية حيال الإرهاب من توصيف هذا الإرهاب بانه سنّي وتحميل الدول السنّية المسؤولية، الأمر الذي أدّى إلى إسقاط نظامَين سنّيين وشرّع المنطقة أمام التدخل الإيراني، إلى التعامل مع أسباب هذا الإرهاب، وهذا ما برز تحديداً مع التحالف الدولي الذي رفض انضمامَ طهران، وعزا ذلك إلى تجنّبه تأجيجَ المشاعر المذهبية بإدخال مكوِّنٍ شيعي في مواجهة التطرّف السنّي، وإعلانه بوضوح انّ هذا التطرّف لا يُحارب إلّا بواسطة الاعتدال السنّي. كما رفضه بطبيعة الحال انضمامَ النظام السوري الذي حمَّله مسؤولية تفاقم البيئة الإرهابية، ورفضه كلّ ذرائع النظام بأنه يتقاطع مع المجتمع الدولي في وظيفة محاربة الإرهاب.
فأمام هذا التطوّر في العقل الغربي وتحديداً الفرنسي الذي يتمايز عن الولايات المتحدة في القضية الفلسطينية لجهة ضرورة منح الفلسطينيين حقهم في دولة سيدة على أرضهم، من المتوقع أن تُزخِّم باريس من الآن وصاعداً دورَ رأس الحربة في أربعة ملفات: الملف النووي من خلال التشدّد مع طهران، والملف السوري من خلال الإصرار على إسقاط النظام، والملف الفلسطيني من خلال التمسك بحق الفلسطينيين بدولتهم، وملف المحكمة الدولية للاقتصاص من اغتيال، الشهيد رفيق الحريري، أبرز شخصية سنّية في العقدَين الأخيرَين.
وفي الوقت الذي يُفترض فيه أن يؤدّي هذا المسار إلى تحصين الدور الفرنسي عربياً وإسلامياً باعتبارها تحمل لواءَ الدفاع عن قضايا العرب والسنّة، وهي كذلك أساساً، فيُرجَح أن تضع فرنسا كلّ ثقلها لحلّ هذه القضايا أو بعضٍ منها.
وإذا كانت المسألة الفلسطينية أعقدها وأصعبها في ظلّ الفيتو الأميركي، فإنّ المسألة السورية تُعتبر أسهلها، ما يعني أنّ باريس ستمارس كلّ الضغط اللازم لإسقاط النظام السوري، وذلك ليس فقط لتعزيز رصيدها داخل الشارع السنّي، بل لأنّ التصدي للإرهاب فعلياً يبدأ من سوريا، حيث تكفي مقارنة البيئة الإرهابية قبل الأزمة السورية وبعدها ليتبيّن بوضوح مدى أهمية إنهاء العنف في سوريا كمدخل لتطويق الإرهاب.
وما حصل في فرنسا كان نتيجة طبيعية في ظلّ التعبئة الإسلامية التي تمظهرت من خلال ترك المجاهدين أوروبا والغرب من أجل القتال في سوريا، وبالتالي من البديهي أن يكبر ويتفاعل هذا المناخ ويرتدّ على الغرب نفسه.
وقد يشكل الحدثُ الباريسي درساً للغرب من أجل الإسراع في إسقاط النظام السوري، وهذا ما حذّر منه الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز من أنّ عدم التدخل سريعاً لإنهاء الأزمة السورية ستكون له ارتدادات على كلّ العالم.
ولكن إذا كانت النتائج الأولوية لأحداث ١١ أيلول الأميركية تُرجمت بإسقاط نظامَي طالبان وصدام، فإنّ المفاعيل الأولية لأحداث ١١ أيلول الباريسية ستُتَرجم بإنهاء الأزمة السورية عبر إسقاط نظام الأسد.