IMLebanon

هل تغيرت أميركا أم رَبِح الأسد؟

قد يكتب التاريخ يوماً: أن الرئيس الأميركي باراك أوباما كان أحد أفضل الرؤساء الأميركيين في السياسة الخارجية. أوقف الغزوات الأميركية. تصالح مع طهران. طوى الصفحة مع كوبا. قاوم صقورا كثيرين أرادوا غزو سوريا وضرب إيران. آثر التفاهم مع روسيا والصين. واختتم عهده بمصارحة حلفائه في الخليج وتركيا وإسرائيل بأنهم اخطأوا. وهو رئيس يتمتع بذكاء استثنائي وثقافة عالية وحيوية لافتة.

قد يكتب التاريخ بالمقابل: ان اوباما كان الأسوأ. غازل الاخوان المسلمين في خطابه في جامعة القاهرة في العام 2009، فاشتعل الوطن العربي بنار الربيع. تخلى عن حلفاء أميركا في تونس ومصر واليمن فالتهبت. غض الطرف عن الإرهاب لضرب سوريا، فارتد الإرهاب الى أوروبا والسعودية وتركيا وغيرها. في عهده مُزقت ليبيا، واحترق اليمن، ودُمرت سوريا، وازداد تفتت العراق، وبقي لبنان بلا رئيس. في عهده أيضا رُسمت «خريطة حدود الدم». وفي عهده وصلت العلاقة مع روسيا الى مستوى الحرب الباردة، وكادت تشتعل مع الصين وبحرها.

لا بأس. التاريخ يكتبه المنتصرون. فمن هم؟

مع مشارفة عهد أوباما على نهايته تنقلب الصورة. ينتقد سيد البيت الأبيض بقسوة السعودية وتركيا وإسرائيل. (راجع أقواله في مجلة اتلانيك). بالمقابل، فان أوباما يريد تعاونا خليجيا إيرانيا. يبشر بمستقبل واعد مع إيران. يقول في رسالته الى الإيرانيين لمناسبة عيد النوروز: «الآن، للمرة الاولى منذ عقود، فان مستقبلا جديدا ممكن». هنا جوهر القضية. لماذا؟

لنلاحظ التالي:

ـ أكد الرئيس الإيراني حسن روحاني لقناة (CBS) ان بلاده وأميركا «اتخذتا أولى الخطوات لتخفيف العداء». وقبل أسابيع قال في إيطاليا ان إيران يمكن ان تقيم علاقات أفضل مع أميركا، لكن عليها ان تغير موقفها. يستمر روحاني بالانفتاح فيما مرشد الثورة السيد علي خامنئي يقول ان اميركا لا تزال على موقفها العدائي داعيا الى اختيار قائد «ثوري» لخلافته. يدخل الحرس الثوري على الخط بلسان قائد قواته الجوية حاجي زاده ليجزم: «لن نسمح أبدا بإقامة العلاقات مع أميركا». أوباما يراهن على الخط الروحاني. لهذا الخط شعبية تكبر.

ـ قال وزير الخارجية الأميركي بعد 4 ساعات من المحادثات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: «اتفقنا على تسريع الجهود لحل سياسي في سوريا وهذا يشمل اقناع رئيس النظام السوري بشار الأسد بالانخراط الكامل في محادثات الانتقال السياسي». لاحظوا دقة الكلمة: «اقناع». هي وحدها تكفي لقلب صفحة التهديد والوعيد.

ـ ما لم يقله كيري، أوضحه نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف. قال ان: «موسكو وجدت تفهماً في واشنطن على المدى البعيد لموقفنا الأساس بأنه ينبغي ألا تطرح قضية مستقبل الرئيس السوري على جدول الأعمال في المرحلة الحالية».

ـ اعلن رئيس الوفد السوري المفاوض الى جنيف د. بشار الجعفري ان حكومة بلاده مستعدة للتعاون مع اميركا في تحالف دولي ضد الإرهاب.

ـ قبل أيام قالت د. بثينة شعبان المستشارة السياسية للرئيس الأسد ان «دمشق تتوقع أن تمارس الولايات المتحدة المزيد من الضغوط على الأطراف التي تعارض عملية السلام في سوريا». نكاد نلمس بداية غزل أميركي سوري.

كيف نترجم المسكوت عنه في هذه التصريحات؟

فيما كان الروس والأميركيون مجتمعين في موسكو، استعاد الجيش السوري مدينة تدمر الاستراتيجية لؤلؤة البادية.هذه بداية تحول استراتيجي وربما مقدمة ربط الجبهتين السورية والعراقية. المسكوت عنه هنا، هو اذاً توافقٌ أميركي روسي على ضرورة تمدد الجيش العربي السوري ضد داعش. اتصل بوتين بالأسد مهنئا، رد الأسد ممتناً للمشاركة الروسية. نكاد نتأكد من استمرار الغزل بين الحليفين.

ما كاد الروس والأميركيون ينهون اجتماعهم حتى استقبل الأسد وفدا من النواب الفرنسيين. جاءت الزيارة بعد استعادة تدمر فسمحت له بأن يتحدث عن «نجاعة الاستراتيجيا التي ينتهجها الجيش السوري وحلفاؤه». الطريف أن الرئيس السوري راح في خلال اللقاء، يوجه رسائل توبيخ لـ «السياسات الخاطئة والمفاهيم القاصرة التي تتبناها حكومات بعض الدول ومن بينها فرنسا»، بينما كان رئيس الوفد الفرنسي عضو اللجنة البرلمانية للشؤون الخارجية في البرلمان تيري مارياني هو الذي يقول: «ان هزيمة تنظيمي داعش والنصرة ليست سوى مسألة وقت». ما كان لناطقٍ باسم الجيش السوري أن يقول أفضل من هذا الكلام الفرنسي. اقلبوا الصفحة إذاً.

جاءت زيارة الوفد الفرنسي بعد زيارة مهمة قام بها وفد من الاتحاد الأوروبي الى دمشق. أعقبت التفجيرات الإرهابية التي أدمت بروكسيل ووصلت الى نحو 50 مترا فقط من مقر الاتحاد. ثمة من قال ان الانفتاح الأوروبي على دمشق والاستعداد لضرب داعش في ليبيا هما سببان مفصليان في اعتداءات بلجيكا. ليس مؤكدا، لكن الأهم ان دمشق صارت مقصدا للراغبين بضرب الإرهاب او الحصول على لوائح.

ما علاقة الأمر بأميركا؟

حين تصل الحروب في العالم الى مستوى الإرهاب الذي أدمى «قلب العروبة النابض» سوريا، ثم ينتقل الى الغرب، يصبح التعاون الأمني هو الأساس. لنتذكر ما قاله كاتب التحقيقات الأميركي الشهير سيمور هيرش عام 2003 في صحيفة نيويوركر، أي بعد غزو أميركا للعراق: «ان المعلومات التي تقدمها الاستخبارات العسكرية السورية فاقت توقعات وكالة الاستخبارات المركزية من حيث الكمية والنوعية». انفتحت اميركا على الأسد آنذاك، وهو يقاتلها سرا في العراق.

الغرب يحتاج معلومات مماثلة الآن. يحتاج لخبرة الجيش السوري وحلفائه. هو يدرك أن كل المعارضة المجتمعة في جنيف، ليس لديها أي قدرة على أن تضاهي بالمعلومات هذا الجيش الذي يقاتل منذ 5 سنوات مع حلفائه. بعض هذه المعارضة ليس لديه النية أصلا لتقديم معلومات قد تنهي دوره عند الفصائل المسلحة.

قالت ماريا زاخاروفا الناطقة باسم الخارجية الروسية لمن يريد أن يسمع: «إذا رحل الأسد، ستتبعه الحكومة، وستنهار السلطة التنفيذية والجيش، وبالتالي فإن الوضع في ليبيا سيبدو نزهة بما ستؤول اليه أوضاع سوريا».

قالها أيضا المرشح الرئاسي الأميركي المثير للجدل دونالد ترامب: «ان المشكلة الحالية لأميركا هي مع داعش وليست مع الأسد». هذا ما بات يفكر به كثيرون في أميركا والغرب. ربما جميعهم. اقلبوا الصفحة.

أميركا حليفة؟؟؟

حين استقبل الأسد وزير الخارجية الأميركي كولن باول بعيد اجتياح العراق عام 2003 بادره بالقول: «ان العلاقة مع أميركا كقوة عظمى هي علاقة تهم كل الدول، لديكم مصالح في هذا العالم ولكن لدينا مصالح في منطقتنا. من الطبيعي أن تتحقق مصالحكم، لكن يجب أن تتحقق مصالحنا في الوقت نفسه». لعله سيقول الكلمات نفسها اليوم لو التقى كيري.

من مفارقات التاريخ، ان اميركا التي اتهمتها إيران وسوريا وكل محور المقاومة بتغذية الإرهاب وتدمير الدول، لا تزال مطلوبة وأكثر من أي وقت مضى للمساهمة في وقف الإرهاب. هي مطلوبة أيضا للتفاهم مع روسيا بغية اخماد النيران ووضع أسس الحلول السياسية في المنطقة. معها تم وضع أسس الاتفاق الإيراني الغربي. من خلالها يطمح كثيرون الى الضغط على السعودية وتركيا وغيرهما. اليها ذهب النواب اللبنانيون ثم وزير المالية اللبناني علي حسن خليل لتخفيف ضغوط مجلس التعاون الخليجي عن لبنان و«حزب الله» والمصارف. فيها يدرس معظم أبناء المسؤولين والقادة والأحزاب العربية من معتدلة او ممانعة، والى صحافتها يستند معظم المحللين العرب (وما أكثرهم) لشرح ما يجري في بلادهم.

لم يخمد سحر أميركا بالرغم من تعاظم سحر بوتين. لم تتغير أميركا، لكن أوباما أدرك في نهاية عهده، أنه لا يستطيع ترك النار مشتعلة في أسوأ حروب القرن في سوريا. أخطأ أيضا حين قلل من شأن بوتين واندفاعته. ادرك خصوصا أنه أخطأ حين قال ومنذ 18 آب/ أغسطس 2011: «لقد حان الوقت لكي يرحل الأسد من اجل خير شعبه»… سيرحل قبل نظيره السوري.

ربح الأسد وحلفاؤه استراتيجياً… فهل يربحون الحرب؟

قال ريابكوف ان الجانبَين الروسي والأميركي اتفقا على عدم طرح قضية الأسد في المرحلة الحالية.. الـ «حالية» هنا مهمة. هي ترّحل عقدة الأسد الى أجل غير مسمى وقد ترضي المشرفين على المعارضة بالاستمرار في التفاوض.

لا بأس. أما الأسد وحلفاؤه فهم ماضون في الحسم العسكري بصمت يقابله ضجيج المصالحات. هي شهور مفصلية قبل رحيل اوباما. بعده قد يعاد طرح القضية، وترتفع الهجمة على الصواريخ الباليستية الإيرانية، فإسرائيل تعتبر «استقرار سوريا أكثر خطرا عليها من الفوضى» وفق خبيرها العسكري رون بن يشاي.

لعل ما نقله أعضاء «التجمع العربي والإسلامي لدعم خيار المقاومة» عن الرئيس السوري من «ان الرهان هو فقط على الحسم العسكري وليس التفاوض مع معارضة لا تملك قرارها» صحيح. لا بأس ان تُكذِّبه لاحقا الرئاسة السورية… هذه مقتضيات اللعبة، خصوصا بين الأسد وبوتين، وربما الآن بين بوتين واوباما. اقلبوا الصفحة.