كثر من السياسيين والاعلاميين يتعاملون مع الحراك المدوي للعماد ميشال عون في الآونة الأخيرة من باب انه حراك من سُدّت في وجهه السبل والدروب فلجأ الى التلويح بخيار اللجوء الى الشارع وذلك من منطلق أمرين:
أولهما أنه سيجد نفسه عند الحسم وحيداً، فأقرب حلفائه مربكون حائرون لا يستطيعون مجاراته أو المضي قدماً معه الى خاتمة الشوط.
وثانيهما انه سيندم لأن خيار النزول الى الشارع في لبنان ما حقق يوماً مأرباً ولا أنجز وعداً للداعين اليه، ولا سيما ان الجميع جرّب حظه فيه وآخرهم كان “تيار المستقبل” الذي حلّل لنفسه التحرك في الشارع في يوم غضبه المشهود على تسمية الرئيس نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة قبل نحو خمسة أعوام، ويوم اعتصم أمام السرايا الحكومية في وسط بيروت بعيد استشهاد اللواء وسام الحسن.
خلاصة القول لدى أصحاب هذا الرأي أن عون آل بنفسه الى قبضة أزمة خيارات دفعته الى سلوك هذا الدرب الوعر وركوب هذا المركب الخشن، لا سيما بعدما عجز عن بلوغ سدة الرئاسة الأولى التي شغرت منذ عام ونيف وقصر عن فرض قائد جديد للجيش يسميه هو.
حيال هذا المشهد فان السؤال الذي يصير مشروعاً طرحه هو: هل عون هو فعلاً في وضع المأزوم واليائس ليلجأ الى ما يصفه خصومه بأنه الخيار الانتحاري او خيار عليّ وعلى أعدائي؟ واذا صح الطرح الذي ينطوي على قدر أكبر من الشماتة أكثر مما هو تحليل عميق للأمور، فهل هو المأزوم الوحيد على ساحة القوى والزعامات اللبنانية الأخرى؟
الذين يعرفون العماد عون ومحيطه السياسي يدركون أن هذا الرجل لم يعد ذاك الذي يخبط خبط عشواء، أو انه يتحرك الآن في اللحظة الخطأ، فهو على المستوى العام يتحرك في لحظة اقليمية مصيرية وحاسمة هي لحظة مخاض ولادة اتفاق إيراني غربي، وسواء اجهضت هذه الولادة المنتظرة كما يرجح البعض، أو تمت كما يتوقع البعض الآخر، فان ما بعدها ليس ما قبلها. وعون والذين حوله يدركون ان مشهد المنطقة وفي القلب منها لبنان، سيكون مختلفاً تماماً والتحولات ستكون دراماتيكية لأن ثمة ولادة جديدة لتوازنات المنطقة ومعادلاتها. وبالطبع لا يخفى على عون وسواه ان استحقاقات لبنان الكثيرة المؤجلة والمعجلة على السواء رهنت منذ زمن بالاستحقاقات الكبرى في المنطقة ومنها هذا الاستحقاق (مفاوضات فيينا). وعليه فان عون لا يتحرك على هذا النحو الجامع وفق حسابات ضيقة أو محلية محضة.
و”الجنرال” ينزل الى ساح الحراك الحاسم وقت تشتعل سبع ساحات عربية مجاورة بكل ألوان الحروب وأشكال المواجهات، ويوشك ان يكون قاسمها المشترك أمران أساسيان: أولهما إضعاف الأنظمة القائمة منذ عقود توطئة لازالتها أو إحداث تغييرات عميقة في بنيتها، وثانيهما انزلاق نحو متاهات أحتراب داخلي أقرب ما يكون الى مواصفات الحروب الأهلية المفتوحة التي تنفجر فيها كل المكبوتات.
وعلى المستوى الداخلي يعي عون أن كل اقرانه من القوى والتيارات الشريكة معه في الحكومة أو تلك اللاعبة على الساحة المسيحية، هي، وأن آثرت الانكار، في عنق زجاجة الأزمة بشكل أو بآخر، وتعمل ضمناً وفق أجندة توشك أن تكون حصرية ألا وهي تقطيع الوقت من جهة والمحافظة على المكتسبات والتشبث بالمواقع المقسومة لها من جهة أخرى.
فـ”تيار المستقبل” الذي يضطر كل صفه القيادي الأول والثاني ان يغادر الى السعودية ليبحث مع زعيمه الرئيس سعد الحريري في سبل مواجهة المستجدات ومنها اضراب عون السياسي المفتوح وسبل ضبط النزاعات داخل هذا التيار، والذي تجلى أكثر ما يكون في ما صار يعرف بقضية أشرطة التعذيب في سجن رومية بات في رأي البعض يعيش على مادة وحيدة هي معاداته لـ”حزب الله” وقضيته الأساسية ومصارعته ومنعه من تحقيق أي مكسب الى درجة ان العقلاء فيه باتوا يعجزون عن استكمال الحوار الذي بدأه مع الحزب بيسر. أما رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي هو في عرف البعض المرتاح الأكبر الى وضعه إذ يقبض تماماً على الحصة الشيعية الوازنة في الدولة فيما شريكه المنافس على الساحة الشيعية أي “حزب الله” مستغرق حتى اذنيه في الميدان السوري وميادين أخرى في المنطقة. ومع ذلك فان بري بحاجة ماسة دوماً الى اقناع من يعنيهم الأمر بانه ما برح لاعباً أساسياً ومحورياً، لذا فهو يذهب بعيداً أحياناً في نسج التفاهمات الخفية مع “تيار المستقبل” لكنها تظل ظرفية لأن بري يعرف الحدود والمحاذير.
أما رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط فهو وان بدا في وضع القادر على الوعظ، لكن الجميع يعرف ان ازمة سيد المختارة في مرحلة التحولات الكبرى في المنطقة ليست بالعابرة لكنه ينجح دوماً في تغليفها بالهجوم على النظام في دمشق والتأكيد يومياً لمن يعنيهم الأمر انه في صف المعادين الاقليميين لهذا النظام من دون ان يبلغ ذلك درجة استثارة حفيظة “حزب الله” لأن ذلك دونه حسابات.
أما شركاء عون في الساحة المسيحية أي حزب “القوات اللبنانية” وحزب الكتائب، فكلاهما بحاجة دوماً الى سند من خارج شارعهما ليقدرا على المنافسة، وبالتحديد سند “تيار المستقبل” وبالتالي لا يمكنهما ابداء معارضة مطلقة للشعارات والعناوين التي يرفع عون لواءها.
قد يكون صحيحاً ان مشكلة عون المكرورة في نظر البعض انه يندفع بعيداً في الرهانات والخيارات تماماً كما فعل غداة اقرار اتفاق الطائف عام 1989، لكن الظروف والمناخات مختلفة هذه المرة، فعون يعرف أن مزاج الشارع المسيحي يميل اليه في مرحلة الصعود الصاروخي للحركات التكفيرية والسلفية التي تهدد فعلياً هذه المرة الوجود المسيحي في الشرق كله وكذلك وجود الاقلية الأخرى، فضلاً عن انه يدرك ان حلفاءه لن يتخلوا عنه وان لم يظهروا تبنياً لخيار النزول الى الشارع.
وعليه، يستشعر عون قوة أساسية عندما يرى ان الكل من حلفاء وخصوم يصيرون في موقع ردة الفعل على فعل تحركه، وهو من يملك فضيلة الجرأة على الحراك والتحرك في لحظة تبدو للجميع لحظة استعصاء. وسواء لجأ عون الى خيار الشارع أم لم يلجأ، فالجلي أنه ليس المأزوم الوحيد على الساحة، لكنه يوشك ان يكون الوحيد الذي لديه القدرة على رفض واقع الأسر، وانه قادر على الطرق بعنف على جدار الخزان لئلا يكون مصيرi كمصير ابطال قصة غسان كنفاني “رجال في الشمس”.