كل الأطراف شركاء في إفراغ الاستقلال من معناه
هل يقترب لبنان من إعادة صياغة النظام؟
هل من حق اللبنانيين ان يستغربوا ان يمر الاستقلال كما مرّ هذا العام، باهتا الى حد لم يشعر به احد؟
لعل التوصيف الدقيق والواقعي لمعنى الاستقلال يقدمه احد المراجع بقوله: «هو استقلال اعرج، وتلك هي النتيجة الموضوعية لضعف، او فقدان، المناعة الوطنية عند اللبنانيين».
بالحد الادنى يفترض ان يكون الاستقلال، وكما يقول المرجع المذكور، المناسبة الوطنية التي تجمع ولا تفرق، ولكن اذا ما تعمقنا في المشهد اللبناني يتبين التالي:
– الكل شريك في هدر دم الاستقلال وفي اطاحة أي معنى استقلالي: بالانقسام السياسي الحاد بين اللبنانيين، بافتراق الرؤى وفقدان المساحات المشتركة للتواصل والتعايش والتلاقي، بحجم الثغرات الموجودة في النظام السياسي، بالتدمير الممنهج للمؤسسات، بالتفسير والتطبيق الانتقائي للدستور، وبالرغبة في الهيمنة لدى قوى سياسية وطائفية ومحاولتها سحب النظام السياسي لخدمة مشروعها، خاصة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري».
– ليس هناك مفهوم موحد للاستقلال ولمعانيه، فلكلٍّ استقلاله: استقلال «8 آذار» غير استقلال «14 آذار»، غير استقلال الوسطيين، غير استقلال الحياديين، غير استقلال المغلوب على امرهم.. فلا انتماء موحدا له، ولا تفسير موحدا لمعانيه، بل لمعنى المواطنة والوطن من اصله. لكل طرف لبنانه ولكل طرف مرجعه وسيده ومموله وولي نعمته ومحركه في الخارج. وكل طرف لا ينظر الا بعين الطائفة والانتماءات والكيانات السياسية والمذهبية!
امام هذا الواقع، يقول المرجع السياسي، لم يبق من الاستقلال الا رمزية الذكرى وتاريخ 22 تشرين الثاني الذي صار في نظر الكثيرين مجرّد عطلة رسمية للموظفين، ومجرد معاني ومظاهر احتفالية فولكلورية متواضعة تذكرهم بوجود هذا الاستقلال، لكن ما يعزي هنا، هو ان مؤسسة الجيش تبقى جزءًا من الامل بالحاضر المستقبل، وآخر رهان على امكانية انبعاث الاستقلال من جديد وآخر عنوان للوطنية والتضحية يؤكدان ان الوطن لم يسقط نهائيا.
لا يستغرب المرجع السياسي نظرة البعض الى الاستقلال كذكرى سنوية لا اكثر ولا اقل، فهذه الفئة من الناس معذورة لأنها اعتادت على ذلك على مرّ السنين الماضية، اذ لم يقدم الاستقلال في لبنان الا كذكرى وليس كمعنى وكعبرة. لذلك من الطبيعي ان يرى هؤلاء في إلغاء الاحتفال والعرض العسكري التقليدي غصة، لكن رب ضارة نافعة، فربما يشكل ذلك حافزا للبنانيين لكي يلتفتوا الى بعض الاساسيات التي، في رأيه، كما يلي:
– الاستقلال مع استمرار اسباب الخلل فيه، سيبقى بلا اي معنى مهما جرى تزيينه بعبارات وكلام معسول وشعارات.
– لا بد من حوار لبناني، ليس على الشراكة والتقاسم والمصالح، بل من اجل الاستقلال الذي بات من الضروري اعادة صياغة مفاهيمه ومعانية، خاصة ان كثيرا من الشعارات قد استهلكت في السنوات التسع الاخيرة، من حرية وسيادة واستقلال وديموقراطية، وبلغ حجم الاستهلاك والاستثمار حدا صار فيه ذاكرة مؤلمة للبنانيين.
– الاستفادة من الازمة الحالية للغوص ببحث اعمق في اسبابها وتكريس حلول تكون اكثر جذرية لاعادة ترتيب الوضع السياسي الداخلي، بين المكونات الطائفية بالدرجة الاولى والسياسية بالدرجة الثانية.
يتفهم المرجع طرح الرئيس نجيب ميقاتي للوصول الى تفاهم جديد اكبر من دوحة واقل من طائف، كما يتفهم الدعوات المتتالية للبطريرك الماروني الى عقد اجتماعي جديد، وكذلك يتفهم طرح السيد حسن نصرالله حول المؤتمر التأسيسي، ويتفق مع القائلين بوضع اتفاق الطائف على طاولة التطوير، اذ لم يعد هذا الطائف ملبيا او منسجما مع الواقع اللبناني على نحو ما كان عليه في العام 1989. ويقول: لبنان ليس معزولا عما يجري من تبدلات سياسية وحدودية في المنطقة، وهذا يجب ألاّ يدفعه الى اعادة انتاج طائف جديد يؤسس لاشتباك جديد في المرحلة القادمة.
من هنا، فإن الاستقلال الحقيقي يعود بالاتفاق على هوية الوطن ومعنى المواطنة، وبإعادة صياغة النظام السياسي الهش والمتهالك الذي تكاد مؤسساته كلها تسقط، وكذلك إعادة ترتيب العقد الوطني الجماعي بين ابنائه، خاصة ان حاجة لبنان باتت اقوى من اي وقت مضى لانتاج عقد وطني جديد يلحظ كل سقطات المرحلة الماضية، ويسعى الى إقفال الثغرات والاستثمار على ما تبقى من ايجابيات.
يتفهم المرجع المذكور الدعوات التي تستعجل انتخاب رئيس الجمهورية. لكنه يقول ان الفراغ الرئاسي، في حالتنا اللبنانية، ليس بالامر المخيف، اذ انه يبقى فراغا موقتا ويمكن ملؤه برئيس جديد في اي وقت قريب او بعيد، ولكن لا يمكن ملء فراغ الوطن بوطن جديد، كما لا يمكن ملء فراغ الاستقلال باستقلال مستعار، فلبنان لديه عنوان موجود اسمه «الاستقلال» ولديه فرصة استرداده بمقاربة اسباب تبدده، واعادة انتاج ادوار كل المؤسسات والسلطات فيه بجذرية اكبر وبحسم اكثر وبانتقائية اقل، ولكن هذا بالتأكيد يحتاج الى توفر مجموعة من الاسباب الداخلية والخارجية كما توفرت عام 1989.