Site icon IMLebanon

هل ضلّت الجيوش طريقَها حقا؟

هل ضلّت الجيوش العربية ــــ الإسلامية طريقها إلى فلسطين؟ هذا هو التعليق الأكثر انتشاراً حول العدوان الغاشم الذي تشنّه السعودية وحليفاتها العربيات على الشعب اليمني. ثم هناك المحاججات الأخلاقية: لماذا دعمتم المتمردين في ليبيا وسوريا والعراق ضد الحكومات الشرعية، ثم تقاتلون دفاعاً عن شرعية الرئيس اليمني المنتهية ولايته؟…

وسجالات أخرى يُغرقنا بها مواطنون مهتمون، ومحللون ليسوا أكثر منهم وعياً، تتضمّن الخزعبلات التالية:

أولاً، أن الأنظمة الخليجية تعي نفسها كجزء من أمة لها مصالح واحدة، وتعتبر، حقاً، أن القضية الفلسطينية هي قضيتها المركزية؛ ثانياً، وأن الأنظمة الخليجية ترتبط بمعايير قومية أو أخلاقية في سياساتها التي تقوم على استمرار تحكّمها بالثروات الوطنية بأي ثمن؛ ثالثاً، أن الأنظمة والقوى العربية الكمبرادورية التابعة للتحالف الأميركي ــــ الخليجي، معنية، أصلاً، بمصالح بلدانها الاستراتيجية، بأكثر من مصالح الفئات الحاكمة في البقاء، والحصول على حصتها من فتات البترودولار، وتدويره في مؤسسات الفساد التي تتبعها.

سأطرح، في المقابل، فرضياتي الآتية:

أولاً، ليست الأمة، في النهاية، ظاهرة اتنية ــــ جنسية أو لغوية أو جغرافية ــــ سياسية، وإنما هي، في تحققها التاريخي الملموس، مشروع قومي وحدوي، لا بالمنحى الأيديولوجي فقط، وإنما في واقعيّة مشروع اقتصادي ــــ اجتماعي ــــ سياسي ــــ ثقافي تحمله كتلة اجتماعية تاريخية. هذا المشروع ليس موجوداً الآن أبداً. وهو، بعناصره المتكاملة، لم يكن موجوداً، أبداً، حتى في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، بينما أدى حجم العداء، الخارجي والداخلي، لمشروع مشرقي حاوله الرئيس حافظ الأسد، إلى تراجعه لاحقاً. وعلى كل حال، فإن التجارب التاريخية، طالما أكدت أن المشاريع القومية لا تنشأ «بالتضامن» بين القوى الداخلية المتناقضة، وإنما بانتصار حركة التحرر القومي في حرب أهلية ضد القوى القديمة التفتيتية الرجعية.

ثانياً، حتى هزيمة حزيران 67، اتخذ عبد الناصر، نهج الحرب الأهلية ضد الرجعية العربية ــــ ومركزها السعودي ــــ ولكنه تراجع، بسبب الهزيمة، إلى أطروحة «التضامن» الزائفة التي تحكمت بالنظام العربي حتى العقد الأول من الألفية الثالثة. ومن المعروف أنه بعيد حرب تشرين وخروج مصر من الجبهة المعادية لإسرائيل وانفجار أسعار النفط، أصبح النظام العربي، فعلياً، خاضعاً ــــ بصورة كبيرة، ثم كلياً ــــ لإرادة السعودية.

ثالثاً، لم تنهج السعودية، أبداً، نهج التضامن العربي، بل نهج الحرب الأهلية على طول الخط؛ سنذكر، هنا، عداءها المثابر لمصر عبدالناصر، وتآمرها ضد الوحدة المصرية ــــ السورية، وحربها ضد الثورة اليمنية في 1962، وتحريضها على شن «حملة تأديب» بوساطة إسرائيل (أرادت الرياض ضربة لإسقاط ناصر أو تحجيمه، أفادت منها إسرائيل لاحتلال أراضٍ عربية في الـ 67،) ثم إغراقها لمنظمة التحرير الفلسطينية بالأموال وإفساد بناها والتحكم بنهجها، بالإضافة إلى التدخلات ضد الثورات والحركات الوطنية في البحرين وظفار وبسط سيطرتها على اليمن الخ. وعلى المستوى الإقليمي، سنلاحظ دورها المشبوه في الحرب العراقية ــــ الإيرانية، ولاحقاً العمل على اضعاف العراق والتآمر مع الولايات المتحدة لإسقاطه؛ (فالسعودية معادية للعراق الموحد القوي، سواء أكان سنياً أو شيعياً). وعلى المستوى الدولي، أغرقت السعودية الانتخابات الأوروبية بالبترودولار لإضعاف اليسار، وموّلت وهيّجت أكبر حملة لنشر الوهابية والفكر الظلامي والطائفية والتكفير منذ نهاية السبعينيات، وأسست أولى المنظمات الإرهابية للقتال ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان. وهذا غيض من فيض. رابعاً، إن تشابك المصالح، وتركيبة العلاقات المعقدة بين الرأسمالية العالمية والنظام السعودي ــــ الخليجي يجعلنا نقترح أن تلك العلاقات تقع في باب الشراكة، أكثر مما تقع في باب التبعية بالمعنى التقليدي. تحتاج الإمبريالية الأميركية إلى البنية السعودية ــــ تحديداً ــــ كمركز للخليج والرجعية وتصدير وإدارة الإرهاب. وهذه البنية القروسطية هي الأكثر فاعلية لإدارة مصالح الولايات المتحدة النفطية والجيوسياسية في المنطقة. وهذا هو السر وراء استيعاب واشنطن لانفلات حركة الإرهاب من عقالها أو لإقدام الرياض على سياسات خاصة بها في سياق التحالف الامبريالي. البنى السعودية ــــ الخليجية، انفصلت عن محيطها وروابطها العربية، لا بالمعنى المجازي فقط، وإنما بنيوياً، وتحولت، منذ مطلع التسعينيات، إلى مفصل من مفاصل التركيب العولمي لسوق النفط والاستثمارات والإدارة المالية والسياسية للعالم. وهو ما يجعل النظام الخليجي، بالتالي، حليفاً موضوعياً لإسرائيل، يتحول الآن إلى حليف ذاتي. حاولت قطر، طويلاً، منافسة السعودية على دورها القيادي في هذه المنظومة، بلا جدوى. لكن الخليج كله ينظر إلى بلدان، كمصر والأردن والمغرب، لا كشركاء، ولا كأعضاء في النادي، وإنما كأدوات.

خامساً، لا يوجد، إذاً، مشروع قومي عربي؛ لقد انفصل الخليج، موضوعياً وذاتياً، عن إطاره العربي؛ أطروحة التضامن سقطت، ولم يعد هناك سوى الحرب الأهلية على مستوى الأمة. ولنعترف بأن الخليج هو المبادر إلى خوض تلك الحرب، بينما يستمر الوعي العربي العام بالتفكير في خزعبلات تضامنية، وفي حين لا تزال القوى الوطنية التحررية، في موقع دفاعي، وتلوك أفكاراً قديمة.

خامساً، لكل ذلك، فإن القول إن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للعرب، لا معنى له. وهذا القول الزائف هو الذي يفتح باب المفاوضات والاتكاء على الحنان الأميركي لحل القضية، بينما القول إن الصراع مع المشروع الصهيوني هو القضية المركزية، هو الذي يحول دون الاستسلام والتنازلات في فلسطين، ويضع الولايات المتحدة في مكانها الصحيح، كعدو لا كوسيط.

سادساً، الصراع مع المشروع الصهيوني لا يُخاض فقط ضد إسرائيل، وإنما، أيضاً، وبالقدر نفسه، في الحرب الأهلية ضد القوى الحليفة للصهيونية والاستعمار؛ يُخاض في سوريا والعراق ضد الإرهابيين، وفي اليمن ضد العدوان.

الجيوش الخليجية ــــ العربية ــــ لم تضلّ طريقها في الحرب الجديدة على التحرر اليمني. كلا؛ فهي تعرف طريقها جيداً؛ بقي أن نعرف نحن طريقنا!