راهَن الغرب كثيراً على تغيّر الموقف الروسي من الصراع السوري، لكنّ التطوّرات على أرض الواقع تُظهر عكس ذلك تماماً، ويبدو انّ موسكو مصمّمة على دعم الأسد حتى النهاية.
تحتاج العلاقة الروسية مع النظام السوري إلى عملية تشريح لفهم أسبابها ومبرراتها وخصوصاً في ضوء الكلام عن توسّع عسكري روسي في المناطق التي يسيطر عليها النظام، وإن كانت الأسباب التي أعلنت عنها الدبلوماسيّة الروسية تركزت حول محاربة تنظيم الدولة الإسلامية والتيارات الأصولية المسلّحة في الميدان السوري.
لا شك في انّ نظام الأسد وجيشه والميليشات الإيرانية التي تساهم عسكرياً في بقائه، باتت في وضعيّة حرجة مؤخراً بعد المعلومات التي أكدت انه لا يسيطر سوى على 25 في المئة من الأراضي السورية، ما أقلقَ القطب الروسي المتمسّك بعلاقته التاريخيّة مع هذا النظام المستمرة منذ أكثر من 50 عاماً.
وراء هذه العلاقة التاريخية نُسجت علاقة استراتيجية، إذ يعتبر الفكر الاستراتيجي الروسي التوسّعي أنّ سوريا موطئ القدم الأكثر أهمية له، كما أنها تُعتبر ذات أهمية رئيسية في حسابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لاستعادة مكانة روسيا كـ«قوة عظمى» مقابل الولايات المتحدة. فموقع سوريا، المطلّ على البحر الأبيض المتوسط وإسرائيل ولبنان وتركيا والأردن والعراق، يجعلها ذات أهمية كبرى من أن تسمح روسيا بخسارتها.
ولا شك انّ الاتفاق النووي الايراني مع الغرب، سَرّع الخطوات الروسية للدخول كلاعب مباشر في الصراع السوري، بعدما كان الرئيس الروسي مكتفياً بالدعم غير المباشر مع اعتماده على وجود عسكري فِعلي وقويّ للجمهورية الإسلامية الإيرانية والميليشيات التابعة لها في سوريا.
لكن ما بعد الاتفاق النووي ليس كما قبله، لأنّ الصفقات التي قد يعرضها الغرب على ايران مقابل الاستغناء عن دعمها للنظام السوري قد يغريها ويجعل بشار الأسد وحيداً في المعركة الدائرة، ما قد يُعجّل في سقوطه. لذلك، سارعت روسيا في الانتقال إلى مرحلة الدعم المباشر من خلال حشد قواها العسكرية على ارض المعركة، مُعلنة بصورة غير مباشرة انّ الأسد خط أحمر بالنسبة إليها، وبالتالي حضورها العسكري المباشر قد يعزّز موقف الأسد على طاولة المفاوضات وفي أيّ تسوية محتملة، وحتماً ستحافظ بذلك على نفوذها في منطقة الشرق الوسط عموماً وسوريا خصوصاً.
يبدو بوتين مرتاحاً داخلياً من الناحية الشعبية بالنسبة إلى تعاطيه مع الملف السوري، فروسيا الأرثوذكسية يُقلقها تنامي قوة الاسلاميين الأصوليين في سوريا والعراق ودول الشرق الأوسط، ولا تزال الحرب مع الشيشان ماثلة في الأذهان. ولا يحتاج بوتين كثيراً إلى تخويف شعبه من «داعش» وربط المعارضة المسلّحة في سوريا بصورته المُرعبة، لذلك لا معارضة داخليّة لبوتين وهو سيبادر إلى خطواته العسكرية في سوريا بسهولة تامة.
كانت الدبلوماسية الروسيّة منذ بدء الثورة السوريّة تزوّد الأسد بالأسلحة وتوفّر له الحصانة في مجلس الأمن الدولي حتى انها وافقت على استيعاب النفط الخام السوري مقابل منتجات النفط المكرّر لدعم اقتصاد البلاد وجيشها، وقدّمت القروض لتفادي إفلاس سوريا.
ورغم الضغوط الدوليّة لم يتغيّر الخطاب الروسي العلني المؤيّد للحل السياسي مع التمسّك بشخص الأسد، فيما تخبّط الموقف السياسي الأميركي حيال الصراع السوري بالتناقضات ما بين القول والفِعل.
لكن مع تضييق الخناق العسكري على الأسد وتقلّص مساحة سيطرته جغرافياً، ارتأى الروس أنّ تحرّكهم بات ضرورياً لأنّ سقوطه يعني خسارة روسيا لقاعدتها العسكرية الوحيدة خارج الاتحاد السوفياتي السابق، أي مركز التموين البحري في ميناء طرطوس السوري.
ليس سراً انّ التحركات الروسية أقلقت الولايات المتحدة التي تترأس التحالف الدولي ضد «داعش» والمستمرة في ضرباتها الجويّة له، إلّا انّ مروحة خيارات مواجهتها للروس ليست واسعة، لأنّ أهدافهم المعلنة لا تختلف عن أهداف الأميركيين، فتصريحات المسؤولين الروس تصبّ في خانة توجيه ضربات جويّة لـ«داعش»، بينما يحتفظون بأهداف غير معلنة بوضوح، غايتها حماية نظام الأسد من السقوط أو على الأقل المحافظة على الوجود الروسي الاستراتيجي على الأراضي السورية في حال حصول تطوّرات ليست في الحسبان.