من جديد، وفي مشهدٍ بات مألوفاً ودورياً في الملعب السياسي اللبنانيّ، «انفجرت» جبهة رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون، مكرّسةً واقعًا يأبى كثيرون الاعتراف به، ألا وهو أنّ «لا كيمياء» بين الرجلين، وأنّ «تحالفهما بالواسطة» لا يمكن أن يستمرّ على حاله، بل يذهب الكثيرون لحدّ تشبيه العلاقة بينهما بالعلاقة بين «حزب الله» و«تيار المستقبل» نظراً لشدّة «الاحتقان» بين الجانبَين، وإن اختلفت الظروف.
وإذا كان «الاشتباك» على خط عين التينة – الرابية أتى بعد «هدنةٍ سياسيّة» طبعت المرحلة الأخيرة منذ موافقة «الجنرال» على مبادرة «الأستاذ» الحواريّة، ومن ثمّ بدء التداول بـ«تسوية الترقيات» التي كان بري إيجابياً على خطها، فإنّه لم يكن مفاجئًا بنسبةٍ كبيرةٍ برأي مصادر سياسية، خصوصًا أنّه أتى بالتزامن مع التسريبات التي تحدّثت عن أنّ التسوية المذكورة قد دُفِنت قبل ولادتها، وأنّ هناك من أحبطها عن سابق تصوّرٍ وتصميم.
هنا، تشير المصادر إلى أنّ ما بدا مستغرَبًا بعض الشيء كان أنّ عون حصر هجومه على بري دون غيره، في وقتٍ كانت كلّ أصابع الاتهام «التعطيلية» تشير إلى «تيار المستقبل» بشكلٍ مباشِر، وتحديداً من خلال رئيس «كتلة المستقبل» فؤاد السنيورة الذي يدرك «الجنرال» جيّداً أنّه من عطّل «الخلوة السداسية» التي عقدت في المجلس النيابي بعيد الجلسة الأخيرة لطاولة الحوار، وهو ما قاله بشكلٍ واضحٍ لا يحتمل اللبس الكثير ممّن حضروا هذه الخلوة، وهو أيضًا «المشتبه به» الرئيسي بإضافة «البند اللغم» إلى «التسوية المفترضة» التي سُرّبت إلى وسائل الإعلام، لجهة تعيين مديرٍ عامٍ أصيل لقوى الأمن الداخلي، منقلباً بذلك على «المعادلة» التي كان قد تمّ الاتفاق عليها والتي تقضي بتعيين قائد للجيش ومديرٍ عام لقوى الأمن بالتوازي.
طبعًا، تقول المصادر، لا يمكن أن يكون سبب التوتّر المستجدّ بين الجانبين ما حصل في جلسة لجنة الأشغال والطاقة والمياه من سجالٍ بين وزيري المال علي حسن خليل والطاقة آرتور نظريان حول التقصير في إنتاج الكهرباء، والذي استُكمِل بسجالٍ أكثر حماوةً بين العماد عون والوزير حسن خليل، خصوصًا أنّ اللجان النيابية تشهد من النقاشات الحامية ما لا يُعَدّ ولا يُحصى بشكلٍ دائم، وهي ليست المرّة الأولى التي تحصل فيها مثل هذه السجالات داخل لجنة الطاقة بالتحديد وعلى الخلفيّة نفسها.
برأي المصادر، قد تكون عبارة «القلوب المليانة» كافية لتوضيح الأمر، معطوفة على «أزمة الثقة» التي بات يشعر بها «الجنرال» حيال جميع الفرقاء، باستثناءٍ وحيدٍ هو «حزب الله»، الذي يعتبر تحالفه معه متيناً وصلباً وغير قابلٍ للاهتزاز بأيّ شكلٍ من الأشكال. هي تشير إلى أنّ «الجنرال»، انطلاقاً من ذلك، لا «يبرئ» بري من تهمة «الكيل بمكيالين» على خط التسوية، التي يريدها هو الآخر مادة لـ«الابتزاز»، وكأنّ شمول الترقيات العسكرية لصهر «الجنرال»، قائد فوج المغاوير في الجيش العميد شامل روكز، ليس إلا «جائزة ترضية» على عون أن يدفع ثمناً باهظاً مقابلها، من تفعيل المجلس النيابي بتشريع ضرورة أو بدونه، وإنعاش الحكومة من دون قدرةٍ تعطيلية لأحد، بآليةٍ جديدةٍ ستُفرَض من حيث لا يحتسب «الجنرال».
تلاحظ المصادر «إيجابية لافتة» في خطاب رئيس «الحزب التقدّمي الاشتراكي» النائب وليد جنبلاط إزاء «الجنرال»، وهو الذي أكّد أنّه يتفهّم موقفه، منتقداً التصريحات «العشوائية والهمايونية» في المقابل التي أجهضت التسوية، وهي إيجابيّة لم يعتمدها بهذا الوضوح صديق «البيك»، أي بري، بدليل أنّه في اليوم التالي خرج بتصريحٍ أعلن فيه رفضه أن يكلّمه أحد بأيّ موضوع، سواء كان الترقيات أو غيرها، قبل حسم موضوع النفايات، وإن حرصت أوساطه على القول أنّه باقٍ على موقفه من موضوع الترقيات، بغضّ النظر عن السجال الحاصل.
عمومًا، تخشى المصادر السياسية أن تكون طاولة الحوار هي «الضحية الأولى» لهذا السجال، عشية جلساتٍ مكثّفة كان بري يسعى من خلالها لإنتاج ما يمكن تسميته بـ«دوحة لبنانية»، إلا أنّه قد لا يكون مُتاحًا له حتى «الحلم» بذلك إذا ما قرّر العماد عون ترجمة امتعاضه من المستجدّات من خلال التصعيد والانسحاب بشكلٍ مؤقت أو نهائي من طاولة الحوار، ليس لأنّ الحوار يصبح بلا جدوى أو فائدة بغياب عون فحسب، بل لأنّه قد يُجمَّد عندها بقرارٍ من بري، انسجامًا مع أقواله قبيل انطلاق عجلة الحوار بأنّ إعلان أيّ مكوّن، إضافة لـ«القوات اللبنانية»، رفض المشاركة سيدفعه لتأجيل الحوار أو إلغائه، علمًا أنّ «الجنرال» ليس أصلاً من المتحمّسين لهذا الحوار، في ضوء قناعةٍ بدأت تتولّد لديه بأنّ الهدف منه نقله من مركز «المرشح الأساسي» إلى «الناخب الأساسي» في الاستحقاق الرئاسي.
لكنّ المصادر تعرب عن اعتقادها بأنّ البحث بهذا الخيار لا يزال سابقاً لأوانه، خصوصًا أنّ التسوية التي «دُفِنت» إعلاميًا، لم تُدفَن من الناحية العملية، ولا يزال «عرّابوها» وفي مقدّمهم النائب جنبلاط يعملون على بلورتها بعد تخطي «الألغام» و«المطبّات» التي اصطدمت بها، وقد قال «البيك» لكلّ من يعنيهم الأمر أنّه لن يستسلم طالما أنّ هناك أملاً ولو طفيفاً ببلوغ الخواتيم السعيدة. أكثر من ذلك، تشير المصادر إلى أنّ «حزب الله» لن يتردّد في الدخول على الخط عند الضرورة، لتقريب وجهات النظر بين «حليفيه اللدودين» ولإقناع «الجنرال» بإعطاء فرصةٍ لهذا الحوار، الذي يعتبر «الحزب» أنّه ضرورة وطنيّة في هذه المرحلة، وأنّ التفريط به قد لا يكون خياراً حكيماً في ضوء دخول البلاد في المجهول بعد الشغور على أنواعه.
هو السيناريو نفسه يتكرّر بشكلٍ دائمٍ إذاً. يفرض «حزب الله» هدنة سياسية وإعلامية بين حليفيه، سرعان ما «يخرقها» أحدهما أو كلاهما، فتعود المناوشات والمماحكات الكلامية بينهما، ليضطر إلى الدخول على الخط لـ«احتواء الموقف». سيناريو بدأ يدفع بالكثيرين للدعوة لحوارٍ بين «حركة أمل» و«التيار الوطني الحر» برعاية «حزب الله»، لعلّه ينفّس الاحتقان بينهما بعض الشيء، تمامًا كما فعل حوار «حزب الله» و«تيار المستقبل» برعاية بري نفسه!