خريطة المناطق الملتهبة في العالم العربي تتسع جغرافيتها من حين لآخر وتشمل حتى كتابة هذه السطور: سورية- العراق- اليمن وليبيا وربما تحتوي الأرض العربية على المزيد من التفجيرات التي تأخذ أشكال حروب أهلية لا نهايات لها.
لكن لبنان وهو «الأعرق» في الحروب الأهلية يهدد بعض بنيه باستعادة هذا النوع من الصراعات من دون أي اعتبار للحروب التي شهدها لبنان منذ 1975 في تاريخه الحديث من دون التطرق إلى التاريخ القديم.
ولأن الوضع يتجه إلى المزيد من التوتر على صعد مختلفة وفي مناطق معينة، يجب التركيز على كيفية العمل لتفادي لبنان فصولاً جديدة من الحروب. ونعرض هنا مواقع الضعف والوهن في الوطن اللبناني.
مع انقضاء السنة الأولى على الشغور في رئاسة الجمهورية وبداية السنة الثانية، يكاد بعض الأفرقاء ينسى عدم وجود رئيس للجمهورية في بعبدا. ويشعر بصورة أوضح بهذا الفراغ الفريق المسيحي، وأكثر تحديداً الموارنة وهي الطائفة التي ينتمي إليها الرئيس. وأغرب ما في الأمر أن الناس بدأت تتعود على أن عدم وجود رئيس بات مسألة عادية، وأن الوضع سيان بين وجوده وعدم وجوده. وهذا شعور بالغ الخطورة، تتزايد خطورته عندما لا نرى في الأفق أي أمل بقرب انتخاب رئيس جديد نظراً للتعقيدات المحيطة بشخصية الرئيس العتيد. وحتى الآن يوجد مرشحان، الأول هو الدكتور سمير جعجع المدعوم من تيار «المستقبل» وأعضاء تكتل 14 آذار، إضافة إلى بعض المسيحيين المستقلين. والمرشح الآخر مطروح بإلحاح لكن بالصفة التقليدية المتعارف عليها. وكان اللقاء المفاجئ الذي عقد بين جعجع والعماد ميشال عون ليل الثلثاء الفائت، قد أوجد حالة من الارتياح ولو النسبي، لكن المخاوف لا تزال قائمة، وهي نتاج ما يزيد على أكثر من ثلاثين عاماً من الخلافات من كل نوع، بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر. ورغم ما أذيع من بيان «نوايا مشتركة» بين الجانبين لا يزال السؤال المطروح: هل ينتقل جعجع إلى موقع «صانع الرئيس» وينسحب لمصلحة غريمه السياسي العماد عون؟
وحول الوضع في لبنان كلام من الذي يجب أن يقال علناً كما سراً:
ألم يقتنع اللبنانيون أو بعضهم بأن الوضع اللبناني المأزوم ليس في موقع متقدم من الأولويات لا الإقليمية ولا الدولية؟ وأن التجارب يجب أن تكون قد علمتهم المثال القائل «ما حك جلدك غير ظفرك/ فتولَّ أنت جميع أمرك».
بعد انقضاء السنة الأولى على انتظار «الشخص»، يبدو وكأنه «انتظار» الأسطوري الذي لم ولن يأتي أبداً!
في التسعينات كان مؤتمر الطائف المحطة البارزة لوقف الاقتتال الداخلي لكن «اتفاق الطائف» وبعد ربع قرن، يبدو أنه موضوع خلافي كبير أكثر منه توافقياً. فالبعض يعتبر ان بعض بنوده نفذت ولكنْ انتقائياً، فيما أُغفلت بقية البنود. وفيما يدعو فريق إلى استبدال «الطائف» باتفاق آخر، يأتي الجواب:
يجب تنفيذ كافة البنود وفي ضوء ذلك يتم التعاطي مع البنود التي تحتاج إلى تعديل أو تبديل. وفي هذا السياق يتم التساؤل: هل إن لقاء بيروت في بيروت أبعد من لقاء بيروت- الطائف في التسعينات أو لقاء بيروت- الدوحة بعد حدث 7 أيار (مايو) 2007 والذي أدى إلى انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية؟
الآن يقال للبنانيين: عليكم انتظار تكريس «اتفاق الإطار» بطابعه النووي بين إيران والدول الخمس الكبرى زائداً واحداً. وهذا الاتفاق يواجه بعض الصعوبات قبل بلوغ تاريخ 30 حزيران (يونيو) الحالي لإقراره بالصيغة النهائية، وما نشهده اليوم هو المرحلة الأخيرة من عض الأصابع بين الجانبين الدولي والإيراني للحصول على شروط تفاوضية أعلى وأقوى، ويجب أن تكتمل هذه «الدراما» بمزيد من الفصول التي تسبق السطور الأخيرة من الاتفاق.
ما الخلافات التي تؤخر التوصل إلى اتفاق؟
جواب: سعي كل فريق إلى انتزاع المزيد من التنازلات من الآخر.
فالرئيس باراك اوباما يريد التوصل إلى اتفاق حول الملف النووي لأكثر من سبب مهما بدا من عدم اهتمام البيت الأبيض ببلوغه. وفي المقابل تريد إيران التوصل إليه بعد الوقت الماراثوني الطويل من المفاوضات الشاقة. وقد شرح اوباما لدول مجلس التعاون الخليجي «الفلسفة» التي يبني عليها موقفه رغم أنه وجه مجموعة من التهم القاسية لإيران من حيث رعايتها الإرهاب. مع ذلك فسيعمل على «توظيف» التفاهم النووي الإيراني في الداخل الاميركي ولدى دول منطقة الخليج المجاورة لإيران، للقول إن الاتفاق يجنب المنطقة والعالم مخاطر الحروب النووية، باعتبار أنه ينص على «تجميد» استخدام المواد النووية بين عشر وخمس عشرة سنة مقابل أن تحصل الجمهورية الإسلامية على مكاسب كثيرة بينها رفع العقوبات المفروضة عليها منذ قيام الثورة وإعادة الأموال المجمدة، وفي تلك الحالة تعود الحركة الاقتصادية إلى حراكها المعهود.
ومع توفر الفرص أمام إيران، هناك العديد من الخلافات التي لا تزال مطروحة، وهي تدور غربياً حول التأكد من صدق نوايا إيران واستخدامها أموالها المجمدة وهي بالمليارات، كذلك يدور خلاف حول طريقة تفتيش المنشآت النووية للتأكد من أنها تعمل ضمن الاتفاق. على أن العقبة الكأداء تتمثل في أزمة انعدام الثقة المتراكمة وعلى مدار السنين، وهذه الأزمة لا تزول الا بالتطبيق الحرفي لما سيتم التفاهم عليه. ذلك أن إيران والولايات المتحدة ينتقلان من نقيض إلى آخر، أي من لا علاقات إلى علاقات كاملة، والتعايش مع هذا الواقع الجديد يتطلب الصبر الطويل من كافة الأطراف.
هل يتم التمديد مرة أخرى لمزيد من المباحثات؟
يدور بعض الكلام عن احتمال تأجيل تاريخ التوقيع (30 حزيران) إلى موعد آخر، لكن هذا الأمر ما زال في إطار ممارسة الضغوط النفسية. وإذا رجحت كفة التأجيل فسيكون لفترة قصيرة، لأن اوباما يجب أن يغادر البيت الأبيض في 2016، وقد سجل في كتاب إنجازاته هذا الاتفاق، فيما الإيرانيون يريدونه مع التظاهر بعدم اللهاث وراءه، وأن يأخذ الوقت مداه.
وبالعودة إلى لبنان، فتطورات عرسال وجرودها تثير الكثير من المخاوف، فالمقاومة الممثلة بـ «حزب الله» ومؤيدوها يريدون من الجيش أن يقوم بدوره بتطهير جرود عرسال من مسلحي «جبهة النصرة». وإذا لم تتمكن الدولة من ذلك لأي سبب كان فإن مقاتلي «حزب الله» مع مقاتلين آخرين يعربون عن الاستعداد للقيام بالمهمة، وهذا موضع تجاذب بين من يؤيد الجيش والدولة ومن يؤيد حزب الله والمقاتلين المتعاطفين معه.
وقد عاد رئيس الحكومة تمام سلام من زيارته إلى السعودية مطمئناً إلى النتائج التي حققها في محادثاته مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، ووزير الداخلية وولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وزير الدفاع، وخاصة ما سمعه من الملك سلمان عن حرص المملكة على تعزيز قدرات الجيش عديداً وعتاداً. لكن يبقى سؤال بعض الأوساط عن مصير بقية مبلغ الثلاثة مليارات من الدولارات التي ستتقاضاها فرنسا مقابل تزويد الجيش بالأسلحة التي يحتاج إليها.
ومع أن فرنسا قامت بتسليم «دفعة أولى»، فإن الكميات الباقية ستتأجل لشهور عدة تبلغ في بعض الأحيان الثلاث سنوات تقريباً. وهنا يطرح السؤال: لماذا هذا التأخير الطويل؟ وما مصير الجيش إذا اضطر لخوض المعارك مع «جبهة النصرة» في أعالي جرود عرسال كما يفيد العديد من المؤشرات؟
وبعد…
أولاً: لا تشير ظواهر الأمور أبداً إلى أن عقدة انتخاب رئيس جديد سوف تحل، والآمال المعلقة على اللقاء التاريخي بين عون وجعجع قد يطول انتظارها، لأن رئيس القوات اللبنانية ليس مستعجلاً للانسحاب من معركة الرئاسة لمصلحة عون، مع عدم استبعاد المفاجآت، فما دام أي منهما لا يملك أكثرية الثلثين فالأزمة باقية.
ومع تواصلها، تنعكس حال الشلل على مجلس النواب وسط صراع بين تشريع الضرورة وعدم الإقدام على التشريع قبل انتخاب رئيس. ويسعى الرئيس نبيه بري بكل ما لديه من تجارب عريقة في معالجة الشؤون اللبنانية البرلمانية لتحريك السلطة التشريعية حتى لا يتم تجميد عقد الجلسات التي تُناقش فيها مشاريع القوانين للتصديق عليها.
لكن الرئيس بري عبر عن حال من الضيق رغم تفاؤله الدائم، وعن مخاوف أمنية مصدرها إسرائيل وتتعلق بسعيها إلى قضم المصالح النفطية والغازية العائدة للبنان في البحر المتوسط. والحكم في لبنان عجز حتى الآن عن الاتفاق على تلزيم بعض شركات النفط لإجراء عمليات التنقيب في أعماق البحر على الشواطئ اللبنانية وضمن الحدود الاقليمية.
ثانياً: يحدث كل هذا وأكثر. فهناك تصعيد خطير على الجبهة السورية، خاصة في ضوء ما حدث من «إشهار» تدخل القوات الإيرانية في عمق الصراع المندلع في سورية بما يضع الصراع الدائر في مرحلة متقدمة من التحولات المصيرية ذات التأثير المباشر على واقع لبنان ومستقبله، بما يؤشر إلى اتجاه الأزمة نحو الانحدار إلى الهاوية السحيقة.
وفي سياق متصل هناك كلام بالغ الخطورة على صعيد وحدة الوطن، وصخب التأجيج الذي يستهدف وحدة سورية الجغرافية. ولأن لبنان تعصف به الأعاصير التقسيمية، نبدو عشية التحولات والاختراقات التي جرى الكلام الكثير حولها.
وهناك الكلام الصادر من واشنطن للمرة الأولى عن «منتصرين اثنين»: بشار الأسد وأنصاره وتنظيم «داعش» ومقاتلوه من التكفيريين، أو أي نوع آخر من الإرهاب الذي يجتاح المنطقة من محيطها إلى خليجها. فإذا كان للبنان أن يؤكد من جديد ثقته بنفسه وأنه بالفعل وطن نهائي لجميع أبنائه، فهناك فرصة لا تزال متاحة لاستدراك المخاطر وكوارث التفتيت والتقسيم. وإلا… سلام عليك يا وطن!.
فالإعلان عن وجود عسكري إيراني في سورية لا بد وأن يكون لهذا التطور تداعيات معينة على صعيد مسار مجموعة الحروب التي تعصف بسورية. وقد كان لافتاً تصريح لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني حيث عبر عن حدوث تطورات ستفاجئ العالم قريباً في سورية.
ولبنانياً، لنلاحظ وجود نصاب التعطيل في كل المؤسسات، بدلاً من نصاب التفعيل. وبجمهورية بلا رأس كلّ هذا الوقت الطويل، لا تستقيم شؤون الوطن وشجونه.