لم يكن ينقص لبنان، لتكتمل عناصر التأزيم، سوى القمة العربية الاقتصادية التنموية التي صودف أنّ بيروت ستستضيفها في 19 و20 كانون الثاني: إذا لم توَجَّه الدعوة إلى الرئيس بشّار الأسد للمشاركة فيها فستقع أزمة، وإذا وُجِّهت إليه فستقع أزمات…
على رغم محاولات التجميل، بدأت ملامح الاختناق الاقتصادي الحادّ تفعل فعلها. وكل الأرقام تؤشِّر إلى ذلك. وليس في الأفق ما يمكن الاعتماد عليه لـ«إمرار القطوع» وكسب الوقت في انتظار معجزة، سوى مؤتمرات الدعم العربية والدولية.
وإلى أن يبدأ تفعيل توصيات «سيدر» ومؤتمر لندن المنتظر، ثمّة مراهنة على قمة بيروت الاقتصادية، لعلها تكون مناسبة للبنان لكي يحصِّل بعض المساعدات من الأغنياء العرب. لكنّ الخلاف على دعوة سوريا جعل من القمة نفسها مأزقاً للعلاقات مع سوريا وللعلاقات مع دول عربية وللعلاقات بين القوى اللبنانية.
في المبدأ، عندما يوجّه لبنان دعواتٍ إلى الرؤساء والملوك العرب، للمشاركة في القمة، فإنما يفعل ذلك بناءً على نظام جامعة الدول العربية وبلسان الجامعة ككل. ولأنّ الجامعة علَّقت عضوية سوريا فيها، لا يمكن لبنان أن يخالف القرار العربي وأن يوجِّه الدعوة إلى الرئيس السوري. وهذا الموقف المبدئي هو الذي تنطلق منه وزارة الخارجية عندما تستثني دمشق من دعواتها إلى القمة.
ولذلك، يكون الحلّ بقرار يصدر عن جامعة الدول العربية في هذا الشأن، إما بإعلان الموافقة على إشراك سوريا في القمة، وإما بمراجعة قرار تعليق العضوية من أساسه. وفي هذه الحال وحدها تصبح دعوة الرئيس السوري إلى بيروت طبيعية.
ويقول المدافعون عن هذا الرأي إنّ أحداً لا يستطيع المزايدة على فريق رئيس الجمهورية في موضوع الاتصال والتنسيق مع الحكومة السورية. فحركة الموفدين إلى دمشق مستمرة، ومواقف هذا الفريق من مسألة الانفتاح على سوريا واضحة. وليس مناسباً وضع الإشكال الطارئ حول لوحة الجلاء في هذا السياق.
فجوهر المشكلة، يقول هؤلاء، هي أنّ لبنان سيقع في مأزق كبير إذا خالف القرار العربي وغامر بدعوة سوريا. وفي الدرجة الأولى، سيقوم المحور العربي الذي يضمّ خصوم النظام السوري بالردّ على لبنان من خلال مقاطعة القمة. وهذا الأمر سيؤدي إلى تعطيل إنعقادها وإحباطها تماماً.
وبعد ذلك، سيتمّ تحميل لبنان المسؤولية عن هذا الفشل، وستتراجع علاقاته بهذا المحور العربي الذي سيَعتبر الإجراء اللبناني استفزازياً للعرب. وستكون لردّ الفعل العربي تداعيات خطرة على لبنان الذي يمرّ في أصعب الظروف، خصوصاً على المستوى الاقتصادي.
ويعتقد المعنيون أنّ القيادة في سوريا تتفهّم هذه الظروف الضاغظة على لبنان. فلا مصلحة لأحد في أن يدفع هذا الثمن الباهظ من أجل مشاركة الأسد. ولو كان الأمرُ معكوساً، لما اختار لبنان إحراج سوريا إلى هذه الدرجة وتعريض مصالحها الحيوية للخطر.
وفي أيّ حال، إنّ لبنان الرسمي، من خلال الخارجية، بذل جهوداً مع قوى عربية تحتفظ بعلاقات مع دمشق والمحور المقابل من أجل القيام بشيءٍ ما في هذا الشأن، وحتى اليوم لم تُثمر هذه الجهود.
وليس مناسباً أنّ يتحوّل هذا الملف قضيةً خلافية إضافية في لبنان. طبعاً، خيارُ عدم دعوة الأسد يريح الرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري وحلفاءه. إذ لا يمكن رئيس الحكومة – خصوصاً إذا ولدت الحكومة قبل القمة – أن يدعو الأسد إلى لبنان، وأن يتحمَّل مشاركته في قمة عربية يستضيفها، وأن تتمّ مناقشته في الملفات الاقتصادية والتنموية العربية.
والأهم، أنّ حلفاء الحريري العرب، وفي مقدمهم المملكة العربية السعودية، يرفضون مشاركة الأسد في قمة بيروت. فحتى إشعار آخر، أي إلى أن يقتنع الأسد بفكّ ارتباطه الأمني والعسكري بطهران، يعتبر هؤلاء أنّ نفوذ الأسد هو امتداد للنفوذ الإيراني.
لكن هذا المنطق لا يقنع كثيراً من حلفاء سوريا في لبنان. فهؤلاء يعتبرون أنّ الجامعة العربية تحوَّلت جثة لا حراك فيها، وأنّ قرارها تعليق عضوية سوريا جاء في لحظة معيّنة وتحت ظروف ضاغطة. وأما اليوم فبات عددٌ من القوى العربية، كما الإقليمية والدولية، يتواصل مع دمشق لأنّ مصلحته تقتضي ذلك.
ولذلك، ليس جائزاً أن يرضخ لبنان وحده لخيارات تتعارض ومصالحه الحيوية. وهو إذ يبحث عن مخرج من أزماته الاقتصادية، فإنّ بوابته الحتمية إلى ذلك ستكون التنسيق مع سوريا.
ولعلّ الموقف الذي أطلقه الرئيس نبيه بري، لجهة رفضه المشاركة في أيّ اجتماع عربي تكون سوريا مغيَّبة عنه، سيكون عنواناً لتحوّلاتٍ سياسية حافلة في هذا الملف.
وهذه التحوّلات قد تؤدي إلى طرح مصير القمة وإمكان انعقادها في بيروت على المحك. فهل يمكن أن تنعقد القمة في بيروت، من دون الأسد، في ظلّ أجواء الاعتراض العنيفة التي بدأت تصدر عن حلفائه في لبنان؟
وفي المقابل، هل يمكن دعوة الأسد إلى القمة وتَحمّل عواقب المقاطعة العربية الواسعة إلى حدّ تعطيل القمة، والاعتراض العنيف من جانب الحريري وفريق 14 آذار، خصوصاً إذا كانت الحكومة قد تشكّلت؟
ربما يبقى البلد بلا حكومة إلى ما بعد 20 كانون الثاني. وهذا أمرٌ يريح قوى سياسية عدّة من الإحراج. ولكن، في هذه الحال، ليس على لبنان أن يتوقع استثمار الحشد العربي للهرب من الانهيار الاقتصادي الذي تُقرَع طُبوله.
وقد يجد بعض القوى العربية الغنية أنّ الفرصة مناسِبة لزيادة المطالب السياسية على لبنان الضعيف، كشرط لتقديم المساعدات إليه. وبدأت ملامح هذه المطالب بالبيان الخليجي الصادر أخيراً، والذي دعا إلى عدم تمكين «حزب الله» وإيران من السيطرة على الحكومة اللبنانية. لكنّ إيران وحلفاءَها جاهزون للردّ والمواجهة.
قد لا تتحمّل بيروت أن يزورها الأسد، أو العكس. ولكن، القمة العربية بحدّ ذاتها باتت على محكّ أن تنعقد في بيروت أو لا تنعقد، لأنها تحوّلت معركة حول: لِمَن القرار في لبنان؟
وفي أيّ حال، هي ستتحوَّل مأزقاً جديداً للبنان، ومادة للنزاع السياسي بين المحاور. وسيثبت اللبنانيون أنهم الأكثر «مازوشية»، والأشدّ إتقاناً لإضاعة الفرص… ولو وصلوا إلى الانهيار!