مسارعة رئيس مجلس النواب نبيه بري الى تطويق تداعيات مقاطعة وزراء “حزب الله” و”تكتل التغيير والاصلاح” الستة لجلستي مجلس الوزراء الاخيرتين وتمنيه على رئيس الحكومة تمّام سلام الكف عن تحديد مواعيد لجلسات جديدة في انتظار استكمال دورة الاتصالات التي بدأها مع الطرفين المعنيين تنم في رأي العالمين ببواطن الامور عن أمر أساسي هو أن رئيس المجلس صار في وضع المتهيّب ولم يعد في مقدوره المضي قدماً في عملية تغطية جلسات مجلس الوزراء في ظل مقاطعة المكونات الاربعة وبالاخص حليفه الأوثق “حزب الله”.
واستطراداً، أيقن بري أخيرا انه أخطأ في الحساب وفي التقدير، وغلطة الشاطر عادة بألف، وأخطأ أيضاً في تجاوز هوامش التحرك المباح له التحرك فيها في اللعبة السياسية الداخلية.
الراصدون لخط تعاطي “حزب الله” مع التطورات المحلية في الآونة الاخيرة باتوا على يقين من أن ذهاب الحزب الى درجة مقاطعة جلسات مجلس الوزراء لم يكن الرسالة التصعيدية الأولى من نوعها التي بعث بها الحزب لمن يعنيه الأمر، إذ سبقتها رسائل تحذيرية غير مباشرة جوهرها ان المضي في عملية تحدي العماد ميشال عون وتأييد خصومه في المواجهة معه امر ليس من الصغائر، وان الحزب جاد كل الجدة في ترجمة ما اطلقه سيده من انه محظور تماماً على أي كان الإيغال في عملية كسر العماد عون أو تهميشه.
والى ذلك، سرت في الاوساط الاعلامية أخيراً رواية عن تفاصيل اتصال أجراه أحد القياديين البارزين في الحزب مع إعلامي عقّب فيه على مقال كتبه هذا الاعلامي وفحواه ان بري أبلغ قياديين في الحزب ما معناه انه اذا كنتم تريدون انتم البقاء مع عون في كل الاحوال فابقوا، ليقول له بالحرف: “إننا في حزب الله ما تعودنا أن يحدد لنا أحد أين نقف وأين لا نقف في السياسة، والمطلوب الكف عن مثل هذا الكلام”.
تعددت الرسائل التحذيرية وتنوعت فكان لا بد لبري وللجميع من اعادة النظر في الامور.
ومع ذلك ثمة من لا يزال يسأل: ما هي الظروف والحسابات التي دفعت بري الى مسايرة سلام وأباحت للأخير الذهاب الى حدود المواجهة المفتوحة مع عون واستطراداً مع الاطراف الاربعة؟ وما هي الحسابات التي املت عليه لاحقا العودة عن هذا النهج وتغليب خيار التهدئة والمعالجة؟
فور عودة سلام من زيارته الرسمية الى القاهرة قبل مدة، قصد عين التينة مباشرة، وهناك وضع الرئيس بري في صورة ما هو عازم عليه ودار حوار بقيت تفاصيله ملك الرجلين، وإن كانت اصداؤه بلغت لاحقاً دوائر معينة ومعنية، لكن النتيجة سرعان ما تكشفت، فسلام حصل من بري على دعم كامل حتى لو كان الثمن التصادم مع عون ومن معه.
وفي رأى العارفين ان جملة اسباب دفعت بري الى اسباغ الغطاء الكامل على ما يعتزم سلام الشروع فيه والانطلاق في رحلته التي لم يكن بامكانه الانطلاق بها لولا هذا الدعم الموعود، وأبرزها:
– رغبة ضمنية منه في توجيه ضربات الى العماد عون تصفية لحسابات قديمة ومستجدة.
– الحيلولة بين عون واي انتصار او مكسب سياسي يحققه من شأنه أن يفتح أمامه الطريق الى قصر بعبدا.
صحيح ان بري يكنّ مودة خاصة للرئيس سلام ويتمنى نجاحه في تجربته الحالية، لكن رئيس المجلس يريد ايضا احياء ثنائية الرئاستين الثانية والثالثة التي كانت على الدوام ميزان اللعبة السياسية في البلاد.
لم يكن خافياً على بري ان حليفه “حزب الله” ليس على الاطلاق في وارد ترك العماد عون وحيداً في المواجهة التي يخوض غمارها تحت اي ظرف من الظروف، لكنه كان يعتقد ان للامر حدوداً لاعتبارين اساسيين:
1- لأن ليس من مصلحة الحزب فرط عقد الحكومة ووضع البلاد تحت سيف الفراغ واحتمالاته، وهذا يعني انه لن يمضي مع عون في رحلة تفضي الى تعطيل الحكومة وادخالها في الغيبوبة.
2- لأن بري يعتقد بفعل التجربة انه يمتلك هوامش خاصة به في اللعبة السياسية الداخلية، وان الحزب سبق له أن راعى هذا الامر، خصوصا ان بري يعتبر ان اللعبة مع عون محلية محض.
ولكن رياح الامور سارت بخلاف ما تشتهيه حسابات بري، لذا ما لبث ان فوجئ برسائل الحزب المتتالية في هذا الاطار، فحاول اولا تجاهلها، معتبرا ان فرض أمر واقع بامكان الحزب إمراره وتفهّم أبعاده وغض الطرف عنه كما جرت العادة، لكن خروج وزيري الحزب من مجلس الوزراء تضامناً مع وزراء “التكتل” غيّر المعادلات وبدّل الوقائع والحسابات، فما كان منه، وهو الخبير، إلا كبح جماح اندفاعته الاولى طالباً فرصة زمنية للمعالجة وبلوغ تسوية جديدة، فكيف سيكون ذلك؟
ثمة من يرى ان الاجابة عن هذا السؤال ستكون في خطاب بري غداً في احتفال حركة “أمل” في النبطية في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه، وربما كان ذلك في مبادرة “انقاذية” يطلقها في هذه المناسبة العزيزة جدا عليه وعلى الحركة وجمهورها العريض. وبصرف النظر عن ماهية ذلك، فالأكيد أن بري لم يعد في وارد العودة الى ادائه الاول في الموضوع الحكومي.