لم يظهر في الأفق الاقليمي بعد ايّ مؤشرات عملية على ما سيكون بعد الاتفاق النووي بين الدول الغربية والجمهورية الاسلامية الايرانية، لكنّ الواضح انّ التصعيد على الجبهات الاقليمية مستمر وقد يشتد اكثر لتصبّ خواتيمه في خدمة ما يطبخ في الكواليس من مشاريع حلول لأزمات المنطقة.
يقول سياسيون انّ الحرب التي بدأتها تركيا على تنظيم «داعش» تعكس في جانب منها معالم مرحلة ما بعد الاتفاق النووي، فأنقرة التي دعمت «داعش» واخواتها عسكرياً ولوجستياً خدمة لمشروعها الرامي الى إسقاط النظام السوري وتمكين جماعة «الاخوان المسلمين» من تَولّي السلطة في البلاد السورية لتكون امتداداً لـ «الاخوان المسلمين» الاتراك الذين يحكمون تركيا الآن بعنوان حزب «العدالة والتنمية»، ها هي تنقضّ على «داعش» على نحو مفاجئ وكأنّها تُعلن وقف حربها على دمشق، في الوقت الذي سمحت بعد ممانعة طويلة للولايات المتحدة الاميركية باستخدام قاعدة انجرليك لشنّ الغارات الجوية على المواقع الداعشية في العراق وسوريا.
وفي رأي هؤلاء السياسيين المتابعين انّ هذا الانقلاب التركي على «داعش» يؤكد انّ الاولوية الاميركية والغربية والايرانية بعد الاتفاق النووي هي القضاء على «داعش» مقدمة للبحث في حلول سياسية للازمات، خصوصاً في سوريا والعراق الساحتين الكبيرتين اللتين تصول داعش فيهما وتجول.
وهذا التلاقي الايراني – الغربي على محاربة «داعش» طبيعي كون أنّ هذا التنظيم شكّل ولا يزال عدواً مشتركاً بين الجانبين، فضلاً عن انّ طبيعة الحلول التي تُنسَج لا وجود فيها لهذا التنظيم المتطرف وبقية التنظيمات الشبيهة له.
لكنّ المشكلة التي يواجهها الغرب في معرض بحثه عن الحلول للازمات الاقليمية، ولا سيما منها الازمة السورية، هي ان لا وجود لمعارضة سورية فاعلة سياسياً وحتى عسكرياً على الارض، حتى تقيم عامل التوازن المطلوب بينها وبين النظام على طاولة المفاوضات، ولذلك يخشى البعض من ان يكون خلف الانقلاب التركي على داعش والسعي بالتوافق مع واشنطن الى إنهاء وجودها في الشمال السوري توطئة لإقامة «منطقة عازلة» تأوي اليها قيادات المعارضة السورية المقيمة في الخارج وتستجمع فيها قواها العسكرية من «جيش حر» وما شابَه، لتكون الارضية التي تنطلق منها الى محاربة النظام او التفاوض معه.
لكنّ سياسيين آخرين يرون انّ من الصعب اقامة «منطقة عازلة» في سوريا، خصوصاً انّ محاولات كثيرة حصلت في السابق ولم تنجح.
ويعتبر السياسيون انفسهم ان ما يحصل يدلّ الى وجود رغبة بإيجاد تسوية مع النظام السوري وليس على حسابه كما يريد البعض، وهو ما تعمل موسكو على تظهيره، بغضّ النظر عمّا يقال من انّ الحركة الروسية منسقة او لا تلقى ايّ معارضة اميركية، علماً انّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان قد اقترح، قبَيل اعلان الاتفاق النووي، تشكيل تحالف اقليمي للقضاء على «داعش» يضمّ المملكة العربية السعودية وسوريا والاردن والعراق وتركيا، وهو يلتقي في هذا الطرح مع التحالف الدولي ـ الاقليمي الذي تمّ تشكيله العام الماضي تحت عنوان القضاء على «داعش» وأخواتها في العراق وسوريا.
ويرى هؤلاء السياسيون انّ «داعش»، التي استثمر كثيرون فيها واستخدموها في حروبهم المختلفة في المنطقة، قد حان وقت الخلاص منها لأنها باتت تشكل عبئاً على مشغليها من جهة، وعقبة امام ايّ حلول سياسية للأزمات، لأنّ طبيعتها ليست من طبيعة الحلول التي تحضّر ولا من طبيعة القوى والاطراف المتنازعة التي ستشارك في صنع هذه الحلول.
واكثر من ذلك، يقول فريق من السياسيين انّ توقيت الانقلاب التركي على داعش يكتسب اهمية كبيرة نظراً لِما ينطوي عليه من خلفيات، اذ انه جاء بعد تصاعد النزاع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني والقوى الكردية على اختلافها التي تتحرك طامحة الى اقامة كيان كردي في الشمالين السوري والعراقي والمتّصلين بجنوب تركيا الكردي، كذلك جاء بعد فشل الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في الحصول على الاكثرية المرموقة في مجلس النواب التي تمكّنه من تحويل النظام التركي نظاماً رئاسياً يجعله مُمسكاً بكل خيوط السلطة.
ولقد جاء الانقلاب التركي على «داعش» ايضاً وايضاً بعد الاتفاق النووي وانطلاق هذه الدولة وتلك الى الاستثمار عليه في ايران والمنطقة سياسياً واقتصادياً، فتركيا حافظت على علاقتها بإيران والعكس صحيح على رغم التناقض الكبير بين موقفيهما من الازمة السورية منذ بدايتها، لكن يبدو انّ أنقرة اختارت اللحظة الاقليمية والدولية المناسبة لتطبيع علاقتها بكلّ من واشنطن وطهران بغية حجز موقعها في المرحلة الجديدة التي ستدخلها المنطقة، فأعطت قاعدة انجرليك للأميركيين مشفوعة بانقلابها على «داعش» التي تريد طهران رأسها مثلما يريده الاميركيون وحلفاؤهم بعدما طرق خطرها ابوابهم.
وبالاضافة الى ذلك تطمح انقرة الى ان تكون لها حصة مرموقة من الاستثمارات في السوق الايرانية بعد رفع العقوبات عنها، خصوصاً انّ كثيراً من الشركات التركية لم تقاطع طهران في زمن الحصار عليها والعقوبات وساهمت الى حد ما في تخفيف وطأتهما عن ايران التي بادلتها بالاستمرار في الغاز الطبيعي اليها بأسعار مخفوضة يقال انها ساهمت في دعم اردوغان وحزبه انتخابياً.
في ايّ حال لا يمكن قراءة الانقلاب التركي على «داعش» إلّا بأنه إيذان ببدء «الحرب الكونية» على هذا التنظيم وبدء انحسار تلك «الحرب الكونية» الأخرى التي تتعرض لها سوريا منذ اكثر من اربع سنوات.