الراعي بين «التوازن» و«تعميم المسؤوليات»
هل تراجع دور بكركي.. وتأثيرها؟
كان يمكن، لاجتماع يعقد في بكركي يضم سفراء الدول الخمس الكبرى والمنسقة الخاصة للامم المتحدة بمشاركة السفير البابوي، أن يشكل محور الاهتمام السياسي.
لكن ذلك كان في زمن مضى. عُقد الاجتماع ومرّ، كما كثير من لقاءات بكركي وطروحاتها ومطالبها، من دون اي متابعة سياسية. القضية الوحيدة التي اثارتها، أو دعمتها بكركي مؤخرا، ولقيت صدى، كانت موضوع «تهميش المسيحيين» في الوظائف والادارات العامة. و «الصدى» هنا، ليس حكما، ايجابيا. شكلّ الموضوع مادة سجال انقسم حوله السياسيون، حتى المسيحيون منهم.
لا شك، ان هنالك انطباعا عاما بتراجع الحضور المسيحي في وظائف الدولة من زمن الوصاية السورية وحتى اليوم. لا يحتاج ذلك الى الكثير من الارقام والاحصاءات والتنقيب حتى آخر وظيفة حاجب في الدولة. لكن هذا التراجع، لا يمكن نسبته فقط الى استهداف اسلامي. تتقاطع العوامل، منها السياسية ومنها الاقتصادية، وحتى العددية، من دون ان يعني ذلك تنزيه المسلمين عن «الطمع» بحصص المسيحيين. وهو «طمع» معمم على المذاهب، وليس فقط الطوائف. ولن تتوانى طائفة عن قضم «حقوق» طائفة اخرى، متى أُتيح لها ذلك.
لكن هذا الموضوع، على أهميته، يبقى تفصيليا عند مقاربة دور بكركي وأبعاد حضورها الوطني وثقلها المعنوي. وهي أمور اساسية بحسب التركيبة اللبنانية.
فما الذي تغيّر ليتراجع تأثير بكركي؟
في الشكل، يبدو الصرح البطريركي في حركة دائمة. يزار البطريرك من كل القوى السياسية. لا قطيعة مع احد، سواء مسيحيين او مسلمين، سواء سياسيين او رجال دين ودنيا. يُزار البطريرك ويزور. وزياراته الكثيرة تقليد جديد في بكركي.
لكن النشاط في الشكل لا ينسج بالضرورة علاقات مثمرة ولا نتائج مفيدة.
ففي العلاقة مع القوى والشخصيات المسيحية، يمكن الجزم أن اياً منها لا تعتبر نفسها معنيّة بصياغة توافقات او تنسيق مع بكركي. جميعها تريد الحفاظ على حسن العلاقة مع البطريرك، طالما هو من بادر، منذ انتخابه، الى محاولة التقرب من الجميع والمساواة في علاقاته، أقله، بين كل الاحزاب والقوى السياسية. يتجنب الكلام الحاسم في السياسة، كي لا يُفهم منه اي التزام مع فريق او ضد فريق. يحاول دائما التوازن في زياراته واستقبالاته ومواقفه. يسمع من الجميع كلام الود والاعجاب. حتى ملاحظاته يصوغها على شكل اسئلة واستيضاحات، والسياسيون الذي اعتادوا من بكركي موقفا حاسما، خصوصا في الازمات، منذ البطريرك الحويك الى البطريرك صفير، يعتبرون انه اذا تعذّر عليهم اسقاط مواقفهم على مواقف البطريرك، أقله يتجنبون خصومته أو انتقاده.
هذا «التوازن» في العلاقات بين بكركي والسياسيين المسيحيين جعلها تعمم في مواقفها. فتنتقد تعطيل المؤسسات الدستورية وشلل مجلس النواب وعدم انتخاب رئيس للجمهورية، لكنها لا تسمي المسؤولين عن هذا التعطيل، فتبدو كأنها تضيّع المسؤوليات.
في رأي احد المسؤولين الكنسيين، والمدافع عن سياسة البطريرك الراعي انه «ينتهج اسلوبا حكيما في عدم الدخول في انقسامات السياسيين وانحيازاتهم. هو يطرح القضايا الوطنية. ينادي بانتخاب رئيس، يطالب بتفعيل المؤسسات وعملها. يدافع عن حقوق اللبنانيين، والمسيحيين من بينهم. لكنه لا يمكن ان ينوب عن المسؤولين بالقيام بواجباتهم».
يقر ان «تأثير بكركي قد يكون تراجع. لكن هذا ليس مسؤولية البطريرك او المطارنة او حتى الكنيسة. فالالتزام والقيم الوطنية كلها تراجعت وانعكس ذلك بطبيعة الحال على بكركي، التي تشكل ضمير تلك القيم».
لا يشارك كثر من السياسيين رأي المسؤول الكنسي. يحمّل أحد النواب «مسؤولية تراجع تأثير دور بكركي الى عدم الوضوح في مطالبها، والتركيز على امر ثم تناسيه، وقول الكثير ثم توضيحه». يضيف: «في موضوع رئاسة الجمهورية اخطأت كثيرا. حتى انها ظهرت منحازة للزعماء الاربعة، مكرّسة اياهم خيارات وحيدة يقطعون الطريق على بعضهم بعضا، وعلى آخرين».