لم يطوِ رئيس الحكومة تمام سلام صفحة الاعتكاف والاستقالة نهائيًا، ولكنّه استعاد بعضًا من الليونة والمرونة المطلوبة في هذه المرحلة. أول الغيث كان إرجاء جلسة الحكومة التي كانت مقرّرة يوم الثلاثاء إلى يوم الخميس، بعدما «انهمرت» عليه الاتصالات والتمنيات من كلّ حدبٍ وصوب، باعتبار أنّ «المزيد من التشاور» ينفع ولا يضرّ، وبعدما تلقّى سيلاً من «الرسائل» من الداخل والخارج على خلفيّة «النوايا» التي أفصح عنها عن سابق تصوّر وتصميم.
يقول المقرّبون من الرجل أنّه استجاب للتمنيات بإرجاء جلسة الحكومة، بعدما «وُعِد خيرًا»، علمًا أنّه كان متمسّكاً بعقد الجلسة، ولو لم تُفضِ إلى نتائج عمليّة حقيقيّة، أقلّه للقول للرأي العام انّ الحكومة ليست متقاعسة عن أداء واجباتها وأنّها مكترثة وأكثر بما يعانونه نتيجة تراكم النفايات، ولكنّه وافق على وجهة النظر التي تقول بالتأجيل ريثما يتمّ تثبيت الاتفاق الذي بدأت معالمه بالظهور من خلال الاختبار الميداني على الأرض، ليُبنى على الشيء مقتضاه قبل جلسة الخميس، وعندئذ تميل الكفّة إما للانفراج أو للانفجار.
وإذا كان هؤلاء يصرّون على أنّ سلام لم يكن «يمزح» عندما هدّد بالاستقالة، فإنّهم يوضحون أنّ السبب في ذلك ليس أنّ صبره نفد أو لأنّه لم يعد قادراً على تحمّل الضغوط التي يتعرّض لها، كما ذهبت بعض التحليلات إلى القول، بل لأنّه شعر أنّ الأفق مسدودٌ أمامه، وأنّ لا أمل بأيّ انفراجٍ، ووصل إلى قناعةٍ أنّ «صدمة» من نوع الاستقالة قد توقظ البعض وتحفّزهم للبحث عن حلولٍ للأزمات المستفحلة في الوطن، ربما على قاعدة «اشتدّي يا أزمة تنفرجي».
ومن هنا، يؤكد المقرّبون من سلام أنّ خيار استقالته أو اعتكافه لا يزال واردًا في حال لمس أنّ التعطيل مستمرّ، وهو ما أبلغه بكلّ وضوح لجميع من فاتحوه بالأمر، لأنّه بكلّ بساطة لا يرضى أن يكون مجرّد «زينة» أو «ديكور»، وبالتالي فإنّ إرجاء القرار بهذا الصدد لا يعني إلغاءه نهائيًا، والأمور تبقى مرهونة بخواتيمها، فمسؤوليته الوطنيّة تقتضي منه الحزم إزاء كلّ من يريد تحويل الحكومة إلى مجرّد «حرفٍ ناقص»، فتكون موجودة شكلاً وغائبة مضموناً.
وسط كلّ ذلك، فإنّ «المفارقة» التي تلاحظها مصادر سياسيّة تكمن في أنّ «حزب الله» بات أحرص على الحكومة من رئيسها تمام سلام، بل حتى من «تيار المستقبل»، الذي يبدو وكأنّه مفرّطٌ بها، رغم أنّ له فيها حصّة وازنة ودسمة، ورغم أنّه يعرف أنّه سيكون من أكثر المتضرّرين من سقوطها، على أكثر من صعيد وأكثر من مستوى. وتوضح أنّ الرسائل التي وجّهها الحزب في هذا الإطار كانت أكثر من واضحة، وقد صدرت على لسان الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله، الذي نبّه الى المجهول الذي ستؤدّي إليه خطوة الاستقالة، واصفًا إياها بأنّها خطرة جدًا، متقاطعًا بذلك بشكلٍ أو بآخر مع فحوى المواقف الدولية التي وصلت إلى سلام، والتي تؤكد أنّ الحكومة خط أحمر لا يجوز المساس به، لا من قريب ولا من بعيد.
وتلفت المصادر إلى أنّ مسار الأمور على هذا الخط يضع الكثير من الشعارات التي يرفعها الفريق «المستقبليّ» محلّ جدلٍ ونقاش، ذلك أنّ «التيار الأزرق» لطالما اتهم الحزب بالوقوف وراء «خطة تآمريّة» لتعميم «الفراغ» في إطار مسعى نحو فرض «المؤتمر التأسيسي» الذي لطالما دعا إليه، فإذا بأصحاب الاتهام يسيرون بأقدامهم نحو هذا الفراغ من دون أن يكترثوا لتداعياته، ليصبح المتهمون في المقابل هم من يحذّرون وينبّهون، بدل أن يتلقفوا «الفرصة النادرة» التي أتتهم على «طبقٍ من ذهب»، إذا كانوا فعلاً يسعون لـ «الانقلاب» على النظام اللبناني برمّته.
لكنّ هذه المقاربة لا تُقنِع مصادر «تيار المستقبل»، التي تدعو للنظر بتمعّن إلى تحرّكات الشارع في بيروت خلال الساعات الماضية، والتي وصلت إلى دارة رئيس الحكومة في المصيطبة ورمي النفايات أمامها، في مشهدٍ مُعيبٍ وغير مسبوق، لا يشبه سوى مشهد «القمصان السود» الذي سبق «الانقلاب الشهير» على رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري قبل إسقاط حكومته بالضربة القاضية، بل إنّ نقاط التشابه كثيرة، خصوصًا أنّ المعلومات الأمنية الأولية ذكرت أنّ «المصطادين بالماء العكر» هم في واقع الامر ينتمون إلى «سرايا المقاومة».
وعلى الرغم من أنّ «حزب الله» استنكر على لسان وزيره حسين الحاج حسن هذه التحرّكات وتبرّأ منها، إلا أنّ مصادر «المستقبل» لا ترى أنّ الأمر «بريء»، وهي تشكّك في حقيقة «نوايا» الحزب الذي يُظهر نفسه وكأنّه «الملاك الحارس» الذي يريد الاستقرار في البلد، في حين أنّه كان من تسبّب بكلّ هذه الأزمات يوم أصرّ على توريط لبنان واللبنانيين في صراعاتٍ لا ناقة لهم فيها ولا جمل، على حدّ تعبيرها.
وتشير المصادر «المستقبليّة» إلى أنّ سبباً واحداً يدفع بالحزب إلى التمسّك بالحكومة، لأنّه يعتبر أنّها تعطيه «الحصانة» و«الشرعية» التي يحتاجها في هذه المرحلة، لمواصلة نشاطاته التوسّعية خارج الحدود، ولكنّه أصلاً يريدها «مشلولة» لأنّها بهذه الطريقة تخدم مشاريعه أكثر، وهو لهذا لا ينفكّ يحرّض رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون على التصعيد وعدم التنازل، ويرفض الدخول في «وساطة» معه لتسيير الأمور بالتي هي أحسن رغم ما له من «مونة» عليه يعرفها القاصي والداني.
هكذا إذاً لا تزال الأمور في مربّعها الأول رغم كلّ التقدّم الظاهر. رئيس الحكومة تمام سلام لا يزال يمسك بورقة «الاستقالة» أو «الاعتكاف» كوسيلة ضغطٍ على «التيار الوطني الحر» وحلفائهم لفرملة حراكهم الاحتجاجي، بتغطيةٍ من «تيار المستقبل»، و«التيار» لا يزال يمسك بورقة «استعادة الحقوق» مهما كان الثمن، وبتغطيةٍ من «حزب الله». وبين هذا وذاك، تبقى السيناريوهات الواردة مفتوحة على مصراعيها، بل أكثر…