«كم من المرات نشيح بنظرنا متظاهرين بعدم الرؤيا كم من الآذان نحتاج في رأسنا قبل أن نسمع النحيب كم من القتلى سيسقطون أمامنا قبل أن ندرك حجم المجزرة؟» (بوب ديلان)
لا تزال هذه الأغنية الجميلة الحزينة تتردد في مسمعي رغم أن «بوب ديلان» كان قد كتبها وغناها سنة في أسطوانة كبيرة كانت تروي مآسي الحروب، أي قبل سنة من الانغماس العظيم للولايات المتحدة الأميركية في حرب فيتنام.
وعلى الرغم من التحذير الغنائي الذي ردده الملايين من الأميركيين، فقد وقعت الكارثة الفيتنامية، وكلفت البشرية عدة ملايين من أبنائها، هذا عدا الصراعات الجانبية التي ترافقت مع تلك الحرب، تحت رايات متضاربة من شرق وغرب ومؤمن وملحد ورأسمالي وشيوعي…
بالمحصلة فقد انسحبت أميركا العظيمة ذليلة مكسورة من «سايغون» عاصمة فيتنام التابعة للغرب التي تحول اسمها بعد الحرب إلى «هو شي منه»، مرشد فيتنام الشيوعية، بعد مكابرة أميركية دامت إحدى عشرة سنة، أدت إلى تغيير جذري في تركيبة المجتمع الأميركي وخرّبت الكثير من أساطيره.
أما فيتنام الموحدة التي رزحت تحت الاحتلال الفرنسي ومن بعده الأميركي وانتصرت على الاثنين تحت راية الشيوعية، عادت بعد سنوات لتستجدي رعاية الرأسمالية لتبيع بضائعها إلى أعداء الأمس! ولم يبق من ذكرى الضحايا إلا صورة بالأبيض والأسود للطفلة الفيتنامية العارية بعد أن أحرقت بعضاً من جسمها قنابل النابالم الأميركية، تعرض أحياناً في بعض المعارض لنيلها جائزة «بوليتزر».
المصيبة هي أننا لا نأخذ العبر من تجارب الغير، ولا حتى من تجاربنا الشخصية، فنعود وننغمس في تجارب جديدة، ظناً منا أننا أفطن من غيرنا، أو أننا نضجنا وصححنا أخطاءنا!
منذ أيام طرح حسن نصرالله شبه مبادرة، بعد أن كان أشاح ببصره وأغلق أذنيه، ولم يأبه لأرواح من سقطوا على مدى سنوات طويلة، قد لا تختصر بالسنوات العشر العجاف الماضية التي ضيع فيها الفرص الكبرى لحقن الدماء.
في البداية كانت الفرصة المتاحة هي بعدم اغتيال رفيق الحريري والتعاون معه في تسوية لبنانية للسلاح غير الشرعي، وتسوية مع بشار الأسد لتخفيف قبض نظامه على أنفاس اللبنانيين والسوريين في السياسة والاقتصاد، فكنا ربما تفادينا المأساة الحالية في سوريا والحائط المسدود في لبنان، فكان الخيار اغتيال رفيق الحريري بدل التسوية.
بعد الاغتيال جاء التفاهم الرباعي، وكان من الممكن الذهاب فيه بعيداً إلى مرحلة الاستقرار في لبنان، لكن خوف «حزب الله» من المحكمة ونتائجها، وإصراره على المضي في مشروع ولاية الفقيه الإمبراطوري، دفعه إلى الهروب إلى الأمام في حرب والخروج بعدها من الحكومة واحتلال الوسط التجاري وتعطيل المؤسسات إلى أن جاء يوم السابع من أيار، ومن بعده اتفاق الدوحة.
قبلنا باتفاق الدوحة مرغمين، ومن بعده التسوية السعودية – السورية، وتجرع سعد الحريري الكأس المرة وصافح أحد قتلة والده، وقبلنا مرغمين أيضاً بمبدأ العفو عما مضى، مقابل المصارحة والمصالحة ومن بعدها الاستقرار. وبعد مدة قصيرة، شعر «حزب الله» بفائض قوته، وظن أنه قاب قوسين من توحيد امبراطورية الولي الفقيه من إيران إلى لبنان، فلم يتورع عن نقض كل التعهدات والانقلاب على حكومة سعد الحريري التي أتت نتاج خديعة السين سين.
من بعدها أتت الثورة السورية بسرعة، وكان حسن نصرالله يعتقد أنها زوبعة في فنجان لن تلبث أن يقمعها بشار كالعادة. لكن، وعلى الرغم من توقيع «حزب الله» رسمياً على الحياد في «إعلان بعبدا»، عاد ونقض العهد وانغمس إلى رقبته في الركام الممزوج بالدم السوري، وبدم أتباعه، ودم الشهداء الأبرياء في الضاحية وغيرها.
اليوم السؤال المطروح بإلحاح: «هل أصبح حزب الله جاهزاً للتسوية؟».
لا يمكن للمراقب المحايد إلا أن يلحظ أن مشروع ولاية الفقيه الذي وصل إلى أوجه سنة إلى درجة تمكّن فيها حسن نصرالله في لبنان من أن يقيل حكومة ويؤلف حكومة، في وقت رفعت أعلام الحرس الثوري في بغداد ودمشق، وهلل كبار ولاية الفقيه بتوسيع ملكه بشكل يحاكي أيام الشاهنشاهية الساسانية.
لكن منذ «عاصفة الحزم» ودخول «داعش» على سوريا والعراق، واستنجاد إيران بالغرب لعلاج أمر «داعش»، والاستنجاد بروسيا في سوريا، تقلّصت حدود حكم ومدى آمال ولاية الفقيه لتصبح مجرد لاعب صغير على الساحة، مع قوى أخرى أكبر وأقدر اقتصادياً وعسكرياً.
المهم هو أن هذا الواقع قد يدفع قيادة حزب الله إلى التعقل والبحث عن تسوية محلية استباقية قد توحي ببعض المكاسب لبيئته يمكنها أن تتناسب مع حجم «التضحيات» الكبرى في مجالات المقاومة والممانعة، لكن على حسن نصرالله أن يفصح عما يريد بصراحة ووضوح، قبل أن يغرقنا في بحور التقية.
بالمحصلة فإن من أشاح بنظره وأدار الأذن الطرشاء وتجاهل سقوط الشهداء، سيدرك اليوم أنه فعل كل ذلك سدى من أجل تسوية كان سيحصل على أفضل منها بالتأكيد «لو كان يدري».
() عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»