لا شك في أن نظام المصالح الأميركي لم يتغير مع إدارة دونالد ترامب لكن ربما أصبحت تعبيراته أكثر علانية وفجاجة من الأدارات السابقة، إذ كل المبادئ المصلحية لحركة القوات الأميركية في المنطقة رُسمت ملامحها مع إدارة الرئيس السابق باراك أوباما وليس الآن، والكارثة الأكبر كانت في الانسحاب الغير مُنسّق من العراق والذي أتاح لإيران وضع يدها عليه. لقد أعاد قرار الرئيس الأميركي بالانسحاب من سوريا التذكير بعدد من الخطوات التي قامت بها الإدارات الأميركية وصبت في صالح خصومها التقليديين بشكل يعاكس مصلحة الحلفاء الحقيقيين للولايات المتحدة.
اليوم تكتسب الأخطاء الأميركية أبعاداً مختلفة مع وجود روسيا في قلب المنطقة وهي التي تستعد لملئ الفراغات الناجمة عن تلك الأخطاء في ظل نزعة ترامب لإحالة الأكلاف المادية والبشرية على غيره من القوى الموجودة في قلب الاشتباك الإقليمي في سوريا. أقلّه على الصعيد المعنوي الذي تبحث عنه تكوينات المنطقة في ظل مصداقية مقبولة راكمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كل سلوكه وتحالفاته الشرق أوسطية وذهبت به إلى حد التورط عسكرياً في حروب مباشرة لحماية أصدقائه.
المصداقية الروسية تجاه دول وأنظمة وطوائف أو فئات في المنطقة تتقدم على التذبذب الذي تعتمده الولايات المتحدة في سياساتها الإقليمية، وذلك حتى لو بدا أن الانسحاب من شرق الفرات إنما يُحضّر لما هو أبعد في المستوى الاستراتيجي والذي قد يطال التمدد الإيراني برمته ويخدم مصلحة حلفائه من زاوية تزخيم العقوبات الاقتصادية التي بدأت تُنهك طهران باعتراف قادتها.
وبقدر ما يعني الانسحاب الأميركي التخلي عن الحلفاء الأكراد بقدر ما يُعيد إحياء التحالف التقليدي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية مع تركيا والرهان على دورها المركزي في الاستراتيجية الأميركية انطلاقاً من طي صفحة الإنقلاب ونتائجه وإعادة فتح العلاقات العسكرية والاقتصادية بين البلدين.
ربما لم يكن في وارد أي إدارة أميركية أن تُفرّط بعلاقاتها الاستراتيجية مع تركيا من أجل الأكراد، وهذا ما كان مُستغرباً حين تتوتر العلاقات بين الطرفين على هذه الخلفية، وبالتأكيد فإن الأكراد كانوا ينتظرون هذه اللحظة التي تنتقل بالأميركيين من مستوى محاربة داعش إلى مستوى إعادة البحث بما هو أبعد من داعش وتحضير المنطقة لتغييرات مُحتملة. إنه دور القوى الإقليمية الكبيرة القادرة على إحداث تموضعات متعددة الأبعاد والتجمع في خطة بعيدة المدى لإعادة التوازن في المنطقة. ومَن يرى المشهد من زاوية الصراع الذي يدور في حوض البحر الأسود وصولاً إلى أفغانستان إنما يُدرك الدور الذي تتحضر تركيا للعبه.
فالانسحاب لصالح تركيا إنما يوازي تكبير الدور التركي في المنطقة والساحة الدولية على حد سواء خاصة وأن الولايات المتحدة تُراجع حضورها في أفغانستان وتتحضر لإيجاد قوة إسلامية قادرة على منافسة الدور الإيراني في العالم والمحيط المؤثر في آسيا والشرق الأوسط.
وربما يطرح توريث الولايات المتحدة لتركيا حضورها في سوريا إعادة إحياء أردوغان للنموذج التركي من جديد بعدما أخفقت أماله في الربيع العربي. حتى في القضايا العميقة تسعى تركيا لاستعطاف الشارع العربي بالشعارات التي تطلقها بوجه إسرائيل واحتضانها لحركة حماس والذهاب بعيداً بموضوع الخاشقجي. وكل ذلك يُقرّبها نحو لعب دور مع قطر في التسوية، أو صفقة القرن، التي رفضت المملكة العربية السعودية الانقياد لها تلبية لرغبة ترامب وصهره. لذلك فإن الخلل الذي أصاب العلاقات الأميركية السعودية في عدة قضايا يُمكن، بالحساب الأميركي، الرد علية من بوابة تركيا. وأردوغان يأتيه ذلك على طبق من فضة.!
طبعاً توحي قدرة تركيا على التوفيق بين استراتيجية متلازمة مع الولايات المتحدة وأخرى متماهية مع روسيا بأنها الشريك الإقليمي لهاتين القوتين في الوقت ذاته، ولم يكن الثبات التركي على منع الهجوم الإيراني على إدلب ثم الإعلان عن عملية في شرق الفرات، وقت كان الإنسحاب الأميركي غير وارد، سوى انعكاس لقدرة تركيا على وعي المصالح الأميركية والروسية معاً، إضافة إلى معرفة دقيقة بالمآلات التي تذهب إليها تلك الاستراتيجيات. هذا من جانب، ومن جانب آخر نجحت تركيا بتسوية إدلب في تهميش الدور الإيراني في شمال سوريا إلى حد بعيد. وفي حال توغّلت في شرق الفرات وأنشأت حزامها الأمني المتكامل، إذ ذاك تصبح شريكة رئيسية في الحل السوري في ظل غياب عربي لافت عن هذا الحل. لكن هل تستطيع تركيا استبعاد العرب عن تحركها داخل الحدود السورية أو في سياق تجميعها لأطياف المعارضة السورية؟ وهل تستطيع مغادرة المربع الذي حشرت نفسها فيه بتعاطيها مع جريمة قتل الخاشقجي؟ طبعاً هي مناسبة لإعادة الإعتبار إلى تلك الأسئلة بما يثبت أن نظام الأسد غير قادر على توحيد الجغرافيا السورية.
وفي ظل تقدّم نظرية التفضيل العربي للخيار الروسي على الإيراني في داخل سوريا، ونموذج أردوغان في إدلب الذي أوصل نقاط المراقبة التركية إلى مشارف سهل الغاب في محافظة حماه وقدرته على الإستقواء حالياً بتفويض ترامب، يبقى الأهم من هذا كله هو فسح المجال أمام دخول عربي إلى سوريا، ليس من زاوية التطبيع مع النظام إنما من باب إعادة صياغة دور حقيقي للمعارضة واحتضان كوادرها وإسقاط الخطوط الحمراء الأميركية أمام تزويدها بمقومات الصمود والقدرة على البقاء.
«مرحباً بشرق أوسط ما بعد الولايات المتحدة» هكذا وصف ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية إعلان ترامب انسحاب جيشه من سوريا، وربما افترض بطريقة حسابية توسُّع دور إيران وزيادة التأثير الروسي في المنطقة كمحصلة طبيعية لهذا الانسحاب. خلاصة من المُبكر التسليم بها في ساحة تتداخل فيها كل هذه االتعقيدات.!
* كاتب لبناني.