بعد عشرة أعوام على تأسيس «التيار الوطني الحر»، لم يتوقّف النقاش في التحوّلات التي شهدَها في بُنيته التنظيمية والقيادية والسياسية. وقد نشَأ عن هذا الوضع، قيادات وكوادر معارضة من رفاق درب العماد ميشال عون، بعضُهم أصبح خارج «التيار» لاقتناعه بانحرافه عن الثوابت والمبادئ والبيئة الحزبيّة الصحّية التي تتخطّى الحلقة الضيّقة من القريبين إلى العمل الديموقراطي الحقيقي، وبعضُهم الآخر لا يزال ناشطاً داخل «التيار» مؤمِناً بتصحيح الأخطاء والانحرافات، إنْ وُجِدَت، بالعمل الداخلي والمعارضة البنّاءَة وتطوير الأداء الحزبي. وتبدو هذه المجموعة راضيةً عن الإنجازات في ما يتعلق بشفافية العمل الحزبي من خلال ما توَصّلت إليه في النظام الداخلي الجديد. وما كانت الرسالة التي وجَّهها إبن الشقيق الأكبر لرئيس التيّار نعيم عون منذ بضعة أشهر إلّا تعبيراً عن التململ الذي كان سائداً قبل أن تُعالج بعد إقرار هذا النظام، فهدأت الأمور داخلياً نسبياً، وباتت العِبرة في التنفيذ.
ليس سهلاً ما شهدَه «التيار الوطني الحر» من انشقاقات وخروج عدد كبير من مؤسّسيه وقياداته وكوادره، بشكل تصاعدي منذ عودة العماد ميشال عون، وانعطافته السياسية التي تجَلّت في محطات عدّة أبرزُها «ورقة التفاهم» مع «حزب الله» التي لم يطبَّق أيّ بند منها، والتخَلّي عن «الكتاب البرتقالي»، إضافةً إلى إشكالية الانفتاح على النظام السوري وزيارات عون إلى سوريا وغيرها.
ويقول المحامي لوسيان عون الذي كان عضواً سابقاً في اللجنة التأسيسية لـ»التيار» قبل أن يُقرّر الانسحاب منه نتيجة تغيّرات «الجنرال»: «هناك تفرُّدٌ حصلَ، إذ كنّا نعمل عام 2005 لتأسيس حزب يفتح الطريق أمام مسار ديموقراطي حزبي، شريف ونظيف وبَعيد من المحاصصة ومن التفرّد بالقرارات، وقد نظّمنا آنذاك ندوات عدّة لوضع نظام للتيار وميثاق له، إلّا أنّنا فوجئنا بالعكس».
يأسَف المحامي عون لوقوع قيادة «التيار» في فخّ المحسوبيّات والعائليّة: «يضعون القريبين في مراكز القرار، ويُبعِدون كوادر كثيرة كانت من مؤسّسي «التيار». ووفقَ علمي، أصبح ما لا يقلّ عن 120 من الأعضاء المؤسّسين خارج حلبة التيار، ولا تزال الساحة الحزبية الداخلية تتخبّط في نزاعات مستمرّة».
نظام داخلي وبيئة ديموقراطية
مصدر في «التيار الوطني الحر» لم ينفِ حصولَ بعض الانحرافات على مستوى التطبيق والممارسة، إلّا أنّه يؤكّد: «بعض الشخصيات التي كانت منضوية سابقاً في «التيار» تسعى إلى لعِب أدوار أكبر من أحجامها الحقيقية، ونحتاج إلى سلسلة مقابلات وأبحاث لتحديد ما إذا كان حصلَ تفرّد بالقرارات أم لا.
ما يتحدّثون عنه ينتمي إلى مرحلة سابقة، إذ استقامت الأمور بعد إقرار النظام الداخلي الجديد، ونتحدّى أيّ شخص يعتبرُه مفصّلاً على قياس عائلي أو ما شابَه»، سائلاً: «كيف يكون ذلك في وقت يقرّ النظام بانتخاب الرئيس ومنسّقي الأقضية من القاعدة. نحن وفّرنا كلّ ما يسمح بممارسة ديموقراطية، فأين الخطأ الذي يتكلّمون عنه؟».
على رغم صدور هذا النظام، لم يحاول أحد من «العونيّين» السابقين مناقشتَه، ربّما لفقدانهم الأملَ والثقة بجدوى المحاولات التصحيحيّة من الداخل، في ظلّ أداء عون المريب على صعيد الممارسة الداخلية داخل «التيار». ويقول لوسيان عون: «نحن غير معنيّين بهذا النظام. فـ»التيار» بتنظيمه الحالي لا يشبه «التيار» الذي ناضلنا فيه قبل 2005، وكلّ ما حصل لاحقاً لم يعُد يعنينا، لأنّنا لا نزال نعمل تحت شعارات «التيار» الحقيقية التي تنسجم مع تاريخه قولاً وفعلاً».
الهواجس زالت
لا يقفُ بعض المشاكسين داخل «التيار» مع الخارجين منه، على مساحة واحدة للنقاش، والاختلافُ بينهما تجاوز النظرة إلى النظام الداخلي والتطبيق إلى التحوّلات السياسية الكبيرة التي انتهجَها العماد عون.
أمّا الكوادر والقيادات التي تُبدي من وقت إلى آخر انتقادات معيّنة، فلم ترتقِ في معارضتها للجنرال والمحيطين به في الحلقة الضيّقة، إلى مستوى معارضة خياراته الاستراتيجيّة في الأداء السياسي العام ومناقشته في تمسّكه بمبادئ «التيار» الأساسية، وركّزَت على رفض الوراثة والمسائل التنظيمية، وما إنْ توصّلت إلى اتّفاق على النظام الداخلي الجديد، توقّفَت معارضتها عند هذا الحدّ. وتقول مصادر من «التيار» كانت معنيّة بالاحتجاج: «العمل الحزبي السياسي يحتاج إلى نفَس طويل، ويمرّ بمراحل ومحطات، وهنا بيتُ القصيد.
فمرحلة إقرار النظام الداخلي مهمّة جداً ولها مدلولات ومعاني. وما توصَّلنا إليه بمضمونه لا يختلف عن أيّ مضمون نظام حزبي في العالم. ونحن نتكلّم عن الجانب القانوني، أي إنّه يخلق مساحة ديموقراطية كبيرة في العمل الحزبي، والقول إنّه فُصِّلَ على قياس عائلي، فهذا أمرٌ مرفوض.
لكنّ هذا لا يعني أنّ النجاح في تطبيق هذا النظام حتميّ. ما يمكننا قوله إنّ اللعبة الديموقراطية مؤَمّنة داخل «التيار» لكلّ القيادات والكوادر والمنتسبين بصرفِ النظر عن الانتماءات العائلية لإثبات أنفسِهم، وليقلْ لنا مَن ينتقد نظام «التيار»، هل ينتمي زياد عبس، مثلاً، إلى عائلة الجنرال؟ إذاً كيف فرضَ نفسَه في العمل الحزبي؟ هناك قيادات وكوادر بات لها شأنٌ داخل «التيار» وليست من العائلة».
صيغة «القيادة الجماعية»
خلال البحث في النظام الداخلي، اقترحَ بعض قياديّي «التيار الوطني الحر» فكرة القيادة الجماعيّة التي تؤمّن استمراريته بعد رحيل مؤسّسه ورئيسه ميشال عون، لكنّ الخارجين من «التيار» رأوا في هذا الاقتراح خطوةً فولكلورية لن تؤدّي إلى نتيجة. ويوضح لوسيان عون: «بكلّ ضمير وشفافية، ارتكبَ «الجنرال» أخطاءً سياسية تاريخيّة كبرى، تمَثّلت في عدم تأسيسه حزباً يستمرّ من بعدِه.
وأنا أقول إنّ عمرَ «التيار» سيكون من عمر «الجنرال» بكلّ بساطة. لقد رافقتُه من العام 1989 وحتى 2006، بعدَها استقلتُ لأنّه ألصقَ اسمَ «التيار» باسمه، لذلك يأتي الحديث اليوم عن القيادة الجماعية بلا جدوى، بل أرى أنّ هذه الصيغة ستأخذه إلى أبعد نقطة من الانقسام. على أيّ حال، أنا أشكّ في أن يتنازل العماد عون عن أيّ من صلاحياته».
من جهتها، تبدو مصادر «التيار» راضيةً عن الصيغة التي أرساها النظام الداخلي لتنظيم ما يسمّى القيادة الجماعية، وتقول: «على عكس ما يُروّج البعض، لم تعُد الصلاحيات في يد شخص واحد، لقد وَزَّع النظام الصلاحيات على ثلاث قوى: رئيس «الحزب» والمكتب السياسي والمجلس الوطني، وبات هناك تفاعلٌ بين ثلاث مرجعيات».
المعارضون نحو حزب آخر
فَقَدَت بعضُ القيادات التي ساهمَت في تأسيس «التيار» ومِن بينها المحامي لوسيان عون، أملَها في إمكان تصحيح المسار، فيؤكّد: «حاولنا كثيراً بعد العام 2005 تصحيحَ المسار، لكنّ المحاولات كانت تبوء بالفشل، ولم تكن تلاقي آذاناً صاغية، وربّما يعمّر «التيار» أعواماً طويلة وربّما لن يعمّر.
لكنّنا نأسَف لأن يذهب نضالنا هباءً، ولم نكن نتمنّى أن نصلَ إلى هذا الوضع، ونحمّل المسؤولية إلى بعض الأشخاص الذين أوصلوا «التيار» إلى حاله الراهنة. أمّا نحن المؤسّسون والقيادات الذين رافقوا «الجنرال» من اليوم الأوّل، فنسعى إلى الحفاظ على الروحيّة الأصليّة والفكر السياسي والشعارات التي انبثقَ منها «التيار»، وقريباً ستشهدون ولادةَ تجَمُّع أو حزب يحمل هذا التفكير والشعارات ويصونها».
أجواءٌ أخرى تتحدّث عنها مصادر «التيار» بعد صدور النظام الداخلي، فتُشدّد على «أنّ الديموقراطية وحرّية التعبير مصانتان داخل «التيار»، ويمكن لأيّ كان التعبير عن مواقفه المؤيّدة للسياسة العامة في الحزب رفضاً أو قبولاً، لكن يمكن أن يُقال إنّ الممارسة تحتاج إلى مرونة أكثر من القيادة، لكن بذلك نتكلّم عن عالم مثاليّ وأفلاطونيّ.
فالجنرال يتمتّع بحسّ ديموقراطيّ في عمقِه وإلّا ما كان لهذا النظام أن يُبصر النور، والأمور ليست سيئة كما يحاول أن يظهرَها البعض، علماً أنّه لا يتحمّل وحدَه وِزرَ الأخطاء التنظيمية والإدارية في الأداء، وبتشجيعِه على وضع النظام وإقراره والبَدء بتنفيذه، وجَّه رسالةً إلى الجميع بأنّه يبني مؤسّسة بكلّ ما للكلمة من معنى».
تبدو القيادات والكوادر الحاليّة لـ»التيار» مطمَئنة إلى مصيره بعد المباشرة في تنفيذ النظام الداخلي، ويقول المصدر: «وضعنا المدماك الأساسي للّعبة الديموقراطية، لكنّ احترامها أو عدم احترامها فتلك مسألةٌ أخرى، وما فعلناه يحتاج إلى أن يحتضنه أبناء «التيار». أمّا أيّ انقسامات ومتاريس داخلية قد نشهدُها غداً، فلا علاقة لها بالنظام بحدّ ذاته».
وفي اتصال مع نعيم عون للسؤال عن وضع «التيار» بعد إقرار النظام الداخلي، يجيب: «بَرهَنَ «الجنرال» أنّه يسعى جدّياً لإقامة الديموقراطية داخل الحزب بهدف فتحِ أفقٍ للاستمرار نحو المستقبل، ويبقى على أبناء «التيار» أن يثبتوا أنفسَهم، ليتمكّنوا من ضمان مستقبلهم، والممارسة الديموقراطية تقع على كاهلهم. بمعنى آخر، لقد قام «الجنرال» بواجبِه وأكثر، والباقي عليهم».