IMLebanon

هل جُمِّدت المبادرة الرئاسية؟

إذا كانت كلّ المؤشّرات تفيد أنّ «التسوية الرئاسية» قطعَت شوطاً مهمّاً، فإنّ العقبة الأساسية التي ما زالت تَحول دونها مزدوجة: العقبة الأولى تتمثّل بعدم موافقة العماد ميشال عون، وعدم استعداد «حزب الله»، لغاية اللحظة، لتجاوزِه. والعقبة الثانية ظهرَت مع بيان السفير السعودي الذي اشترَط الإجماع المسيحي.

البيان التصعيدي الذي صَدر عن تيار «المردة» موجِّهاً رسائله إلى عون بأنّ ترشيحه غير مفتوح زمنياً، وأنّه لن يسمح بأن تكون وظيفته تعطيل فرصته الرئاسية، يؤشّر إلى أمرَين: ضيقُ صدر فرنجية الذي يفترض أن يكون في موقعه المستجدّ أكثر ليونة، واستعجاله التسوية الرئاسية خشية بروز تطوّرات سياسية أو أمنية تؤدّي إلى الإطاحة بها،

فيما كان باستطاعته أن يحصر بيانه بالبند الانتخابي قطعاً للطريق على التأويلات والتسريبات التي حاولت النَيل منه من باب مقايضة رئاسته بالإبقاء على قانون الستّين، ولكن من دون إخراج خلافه مع عون إلى الإعلام، ومن باب التهويل الذي يَعلم فرنجية أنّه يدفع عون إلى التصلّب في موقفه، لا تليينِه، وبالتالي هل ما قام به بهذا المعنى هو دعسة ناقصة؟ وإلى ماذا يؤشّر؟

لا يمكن تفسير تصعيد فرنجية، عوضاً عن إبقاء الأمور رهن المشاورات السياسية خلف الكواليس، سوى أنّه دليل على أنّ الرجل يخوض بنفسه مفاوضاته لإقناع عون بالانسحاب له، وأنّ وصوله إلى الطريق المسدود دفعَه إلى المواجهة في الإعلام عن طريق التهديد، لأنّه لو كان «حزب الله» مَن يتولّى المفاوضات عن فرنجية لَما اضطرّ إلى المواجهة الشخصية، بل كان ترَك المسألة على عاتق الحزب.

ومِن الواضح لغاية اللحظة أنّ «حزب الله» لم يغادر موقفَه المعلن بدعمِ عون، ولا المضمَر برفضه ممارسة الضغوط عليه للانسحاب لمصلحة فرنجية، علماً أنّ انتخاب الأخير يشكّل مصلحة استراتيجية للحزب بإيصال مرشّح من داخل فريقه في لحظة دولية-إقليمية تشهَد مفاوضات جدّية لإنهاء الأزمة السورية، وتفتح الباب أمام عودته إلى لبنان، وتعطيه الأرجحية في لعبة السلطة الداخلية، وبالتالي هل يمكن أن يبَدِّي علاقته مع عون على هذه المكاسب الاستراتيجية؟

وبما أنّ الأمور تُقاس في خواتيمها، يصعب التنبّؤ بالموقف النهائي الذي يمكن أن يتّخذه الحزب، إنّما ما أثبَته لغاية اليوم أنّ أولويته تكمن بالحفاظ على علاقته مع عون لا الرئاسة، وأنّه لو خُيّر بين رئيس من فريقه وعون يَختار الأخير.

وإذا كان يَصعب الجزم في هذه المعادلة بانتظار ما ستؤول إليه التسوية، يفضّل الحزب أن يتّخذ عون قرارَه بملء إرادته، وهذا الموقف يؤشّر إلى الآتي:

أوّلاً، عدم حماسة الحزب، الظاهرة أقلّه، لترشيح فرنجية.

ثانياً، رغبته في إبقاء المبادرة الرئاسية بيَد عون.

ثالثاً، تفضيله الفراغ على الإتيان برئيس حليف يؤدّي إلى خسارته الحليفَ الآخر.

رابعاً، تبديتُه المزاجَ المسيحي على رئاسة الجمهورية. فالحزب لا يريد أن يربحَ رئاسة الجمهورية ويخسر الشارع المسيحي، سيّما أنّه يدرك أنّ شعبيته داخل الوسط المسيحي مصدرُها عون فقط، وخسارة عون تَعني خسارة الغطاء المسيحي.

خامساً، خشيتُه من وجود صفقة عنوانُها فرنجية في لبنان مقابل رحيل الأسد في سوريا.

سادساً، غياب التفسير الموضوعي الذي يُطمئنه عن الأسباب التي دفعَت الرياض إلى خطوة تراجعية من هذا النوع، فيما تُصعِّد في كلّ المنطقة.

فلكلّ هذه الأسباب وغيرها اتّخَذ الحزب مسافةً عن هذه المبادرة، ويبدو أنّه لا يستسيغ أيضاً التواصل المباشر بين حلفائه المسيحيين والحريري، وعلى رغم مباركته سابقاً الخط المفتوح بين عون والحريري، إلّا أنّه لم يكن ينظر بارتياح إلى هذه العلاقة، والأمر نفسه ينسحب على فرنجية.

وإذا كان الحزب لا يمكنه تجاوز عون إلّا بترشيح مِن وزن فرنجية، فإنّ عون لا يمكن أن ينسحب لمرشّح من فريقه السياسي، لأن لا مبرّر عندذاك لعدم تزكية ترشيحه.

ومن هنا خطأ الحريري باستعجال التسوية الرئاسية، لأنّ الإصرار على استحالة وصول مرشّح من 8 و14 آذار كان سيفضي في نهاية المطاف إلى وصول مرشّح توافقي يعكس بدقّة موازين القوى المحلية والخارجية، وبالتالي التنازل كان في غير محلّه، كما تبيّن أيضاً أنّه متسرِّع وغير مدروس، وإلّا كيف يمكن تفسير تريّث الحزب بملاقاة الحريري، هذا التريّث الذي يمكن إدراجه ضمن احتمالين: رغبته في حرقِ الحريري وتصويره أمام حلفائه والعالم بأنّه لا يَمون على تعهّد يَقطعه.

والاحتمال الثاني رغبته في الحفاظ على الستاتيكو الحالي بانتظار انتهاء الأزمة السورية، وهذا الوضع يُعتبر مثالياً للحزب، حيث إنّ الاستقرار الأمني مؤمّن من بوّابة التحالف مع «المستقبل»، وغير مضطرّ للتضحية بتحالفاته المسيحية في سبيل رئاسة لا تقدّم ولا تؤخّر في حساباته.

ولكنْ كان يُفترض بالحريري أن يدرس مبادرته جيّداً قبل إطلاقها، مِن قبيل أن يتثبَّتَ من ملاقاة «حزب الله» له، تجَنّباً للإحراج الكبير الذي سيواجهه مع شارعه وتحالفاته، والضرَر الذي ستُحدثه ويصعب إصلاحه، وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسَه: هل الحريري تلقّى وعوداً بأنّ الحزب سيلاقيه في منتصف الطريق وعاد وتراجَع، أم أنّ الحريري قدّر بأنّ الحزب لا يمكن أن يرفض هذا العرض وعلى هذا الأساس تَقدَّم بمبادرته؟

فإذا كانت عملية تقدير يَعني أنّ فريق العمل الذي طبَخ التسوية إتّكأ على فرنجية فقط، وبالتالي ارتكبَ خطأ فادحاً، وفي حال تراجع الحزب عن تعهّد قطعَه يعني أنّه أراد خلقَ مزيد من الإرباكات للحريري.

وإذا كان الجمود سيّد الموقف على خط «حزب الله» من المبادرة، فيبدو أنّ الجمود سينسحب بدوره على خط الحريري من المبادرة بعد تصريح السفير علي عواض عسيري الذي أكّد «أنّه مع أيّ مرشح يُجمع عليه الأشقّاء اللبنانيون عموماً والمسيحيون خصوصاً، لأنّ رئاسة الجمهورية هي الموقع المسيحي الأوّل في الدولة»، وهذا الموقف هو الأوّل من نوعه بعد اللغط الذي أثارته المبادرة عن حقيقة الموقف السعودي منها والذي جاء ليجمّدها بالحد الأدنى من خلال إعطاء الأولوية لوحدة الصف المسيحية، وعدم ظهور المملكة بموقع المتدخّل في هذه الساحة، الأمر الذي يدرج في خانة المساعي التي قام بها الدكتور سمير جعجع لقطعِ الطريق على ترشيح فرنجية من الباب السعودي.

ويبقى أخيراً رزمة من التساؤلات التي لا بدّ منها: هل سَقطت المبادرة بالضربة القاضية أم جُمِّدت وإمكانيةُ إنعاشها ما زالت متوافرة؟ ما الخطوة التالية للحريري بعد بيان السفير السعودي، كما الخطوة التالية لفرنجية بعد قرار الحزب عدم التدخّل مع عون؟

هل تصريح عسيري يعني أنّ المملكة أقرب إلى جعجع من الحريري، أم لم تكن تتوقّع ما أثارَته من انقسام، وبالتالي قرّرت التدخّل لتعليق المبادرة؟ ما تأثير انفراط التسوية على الحريري؟ وهل يَدخل الملف الرئاسي في سُبات عميق مجدّداً أم يتحرّك باتجاهات أخرى؟