يروّج داخل الوسط العوني لنظرية مفادها أنّ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً ينهي حقبة الرؤساء التوافقيين ويكرّس حقبة الرؤساء التمثيليين، ما يجعل وصول الدكتور سمير جعجع بعد انتهاء ولاية عون حتمياً، فيما عدم وصول عون اليوم يعني حكماً عدم وصول جعجع غداً.
من يضمن أن يؤدي انتخاب عون اليوم إلى انتخاب جعجع لاحقاً؟ الشيء الوحيد المضمون في هذه المعادلة هو وصول عون إلى بعبدا. ومن قال إنّ عون سيسلِّم الرئاسة بعد ست سنوات؟ ومن قال إن الذي سيخلفه سيلتزم هذا «الاتفاق الحبّي» ولن يجد أنه الأولى بالرئاسة؟
ومن قال أصلاً انّ عون لن يصطدم، فور انتخابه رئيساً، بجعجع عمداً من أجل قطع الطريق باكراً عليه وإنهاء كلّ مفاعيل «الاتفاق الحبّي»؟ ومن قال إنّ الرئاسة هي وليدة تفاهم مسيحي بمعزل عن القوى الإسلامية وموازين القوى الداخلية والخارجية؟
وفي موازاة هذه التساؤلات يروّج الوسط العوني نفسه لنظرية أنّ ما ينطبق على رئاستي المجلس والحكومة يجب أن ينسحب على رئاسة الجمهورية بانتخاب الأكثر تمثيلاً، ولكن ما فات هذا الوسط يتمثّل بالآتي:
أولاً، على المستوى السني هناك أحادية، لا ثنائية، وبالتالي من البديهي أن تكون رئاسة الحكومة من حصة تيار «المستقبل» مباشرة أو مَن يسمّيه.
ثانياً، على المستوى الشيعي هناك أحادية بشكل ثنائية، وبالتالي من الطبيعي أن يكون رئيس المجلس نتيجة التفاهم بين «حزب الله» وحركة «أمل».
ثالثاً، على المستوى المسيحي هناك ثنائية جدية بين «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر»، واستطراداً بين مسيحيي ٨ و ١٤ آذار. وبالتالي، من أجل انتخاب المسيحي الأكثر تمثيلاً يفترض الآتي:
أ – أن تكون الثنائية المسيحية من طبيعة حزبية لا خيارات استراتيجية، بمعنى لو كانت القوى المسيحية التمثيلية ضمن خيار سياسي واحد يصبح الوصول إلى تنظيم مداورتها في السلطة مسألة طبيعية، ولكن بما أنّ الخلاف بين القوى المسيحية التمثيلية هو حول خيارات كبرى يصبح تنظيم مداورتها في السلطة مسألة غير طبيعية، لأنه ليس صحيحاً أنّ الأولوية هي لتكريس مبدأ الصفة الرئاسية التمثيلية بمعزل عن الخيار الذي يحمله صاحبها، حيث من البديهي استخدام كل الوسائل الديموقراطية لمنع الخصم المسيحي الاستراتيجي من الوصول إلى الرئاسة على قاعدة «١٠٠ مرة شخص توافقي ولا مرة واحدة شخص تمثيلي بخيارات عدائية». فالانقسام المسيحي العمودي هو الذي يرجّح الخيار التوافقي، وليس رغبة المسلمين باستبعاد المسيحيين الأقوياء.
ب – أن تحتكم القوى المسيحية إلى الدستور واللعبة الديموقراطية، فيما عون قرّر تعطيل النصاب بانتظار انتخابه رئيساً. فالخيارات في هذا المجال محدودة باثنين: المواجهة المجلسية بينه وبين جعجع بغية نقل ضغط تعطيل انتخاب الرئيس التمثيلي إلى الحضن الجنبلاطي لإحراجه ودفعه إلى انتخاب جعجع أو عون. والخيار الثاني الاتفاق على مرشّح ثالث.
ج – أن يكون هناك خيار ثالث تمثيليّ داخل البيئة المسيحية، وأن يكون هذا الخيار توافقياً بعيداً عن الانقسام المسيحي-المسيحي والوطني-الوطني، ولكن هذا الخيار غير موجود حتى الساعة، حيث أنّ الساحة المسيحية الغنية بتعددها تفتقد شخصياتها المستقلة إلى الحيثية التمثيلية التي تخوّلها خلق خيار ثالث في موازاة 8 و14 آذار.
وانطلاقاً من الأسباب المُشار إليها لا يمكن مقارنة وضع المسلمين في الرئاستين الثانية والثالثة بوضع المسيحيين في الرئاسة الأولى. ومن ثم مَن يعطّل النصاب وهو مرشّح هل يمكن تصوّر طبيعة ممارسته وهو في السلطة؟ حيث انه سيلجأ عند كل أزمة إلى شلّ المؤسسات والاعتصام في بعبدا وتعليق الدستور و…
وربطاً بما سبق، ما يدعو إليه الدكتور جعجع هو التزام الدستور، وهو أكد انه سيكون أوّل من يهنّئ الفائز، ولكن يخطئ من يتصوّر أن جعجع يمكن أن ينتخب عون، أو يفترض به ذلك تحت أيّ عنوان أو شعار سخيف من قبيل وحدة المسيحيين، وذلك ليس فقط بسبب الخلاف التاريخي مع عون وتحميله مسؤولية كل المرحلة الممتدة منذ العام ١٩٨٨ إلى اليوم وانقلابه على «القوات» في كل هذه المرحلة، بل لأنه في خيار سياسي آخر، ووصول هذا الخيار ستكون ارتداداته كارثية على المسيحيين واللبنانيين، لأنه سيرجّح كفّة «حزب الله» وخياره الإقليمي في لبنان.
فالدكتور جعجع وضع ترشيحه تحت عنوان وقف تمدّد «حزب الله» داخل السلطة، فيما وصول عون يعني فتح الباب أمام الحزب لاستكمال وضع يده على المؤسسات، وهذه المرة بغطاء مسيحي فعلي، وتحوّل رئاسة الحكومة إلى المكوّن الأضعف في ظل كمّاشة الرئاستين الأولى والثانية.
فوصول عون إلى الرئاسة هو انتكاسة لمشروع ١٤ آذار، وهدف ذهبي في مرمى «القوات» التي تسجّل عاماً بعد عام صعوداً تراكمياً وثابتاً، ووصول عون سيؤدي إلى تطويقها، ويعني العودة بالرئاسة إلى ما قبل العام ٢٠٠٨ وليس ١٩٨٨، كما عودة بالبلاد إلى ما قبل عامَي ٢٠٠٥ و١٩٩٠، لأنه سيُعيد قواعد الصراع بين السنة والمسيحيين، وبين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، من أجل أن يتفرّغ «حزب الله» لدوره الإقليمي.
فلكلّ هذه الأسباب وغيرها الكثير لا مصلحة إطلاقاً لـ»القوات اللبنانية» بوصول عون إلى الرئاسة بالمطلق، فكيف بالحري عن يدها، كما لا مصلحة لجعجع بلقاء ثنائي مع عون، لأنه سيعيد فتح الأبواب السياسية أمامه بعدما أغلقت، إنما كل المصلحة في استمرار المواجهة السياسية مع هذا التيار… حتى قيام الساعة.