ارتفاع حدة التوتر السياسي على الساحة اللبنانية لا يبدو منفصلا عن التبدلات الدراماتيكية المتسارعة في سوريا، الطائرات الروسية غيرت قواعد «اللعبة»، فريق 14آذار مصاب «بالذهول»، فريق 8آذار يشعر «بفائض» من القوة، ثمة رهانات متعارضة على الحدث «التاريخي» غير المسبوق في اجندة «الدب» الروسي، واذا كان حزب الله المطلع والمشارك بفعالية في رسم استراتيجية التحرك الجديد لحلفائه على الساحة السورية، ينصح «خصومه» بالتواضع والمضي قدما في تحصين الساحة الداخلية بما يتناسب مع الوقائع الجديدة، فان السؤال المحير يبقى حول ما يجعل الفريق الاخر، وخصوصا تيار المستقبل، مصرا على التصعيد ورفع سقف «التحدي»؟
اوساط بارزة في 8آذار تشير الى ان «تحذير» نائب الامين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم من انهيار الحكومة، ياتي في سياق افهام الفريق الاخر بان التعنت لم يعد يجدي نفعا، واستغلال غياب الخيارات «الحكومية» لمحاولة «لي ذراع» الطرف الاخر غير مفيدة، فهذا التفصيل بات صغيرا في خضم التطورات والاحداث، والتفاهم راهنا على «قواسم مشتركة» تحييد لبنان عن ترددات «الزلزال» السوري، مصلحة للجميع، حزب الله «مرتاح» اكثر من اي يوم مضى، لا يريد الاطاحة بالحكومة، يرغب بالحفاظ على الاستقرار الداخلي، مهماته في سوريا تستوجب ذلك، لكن ليس مقبولا الخسارة في بيروت بينما تزداد الارباح في سوريا.
هذا الموقف تبلغته القيادات المعنية في «التيار الازرق» عبر القنوات المعتادة، لكن ثمة فهم خاطىء لدى قيادة «المستقبل» لطبيعة التطورات في المنطقة، ثمة قناعة ان ما يحصل لن يعدل التفاهمات حول الساحة اللبنانية، هناك تطمينات سعودية تفيد بان الصراع على النفوذ في المنطقة مستمر، لكن الاتفاق على ان «بيروت للجميع» ما يزال ثابتا، وهذا يعني حفظ مكان للجميع في المعادلة القائمة دون ان يكون «التيار الازرق» مضطرا لتقديم اي تنازلات، اي بمعنى آخر ثمة قناعة سعودية بان الانتصارات او الاخفاقات في سوريا لن تصرف على الساحة اللبنانية، هذا التفاهم تم مع الروس الذين حملوا الموافقة الايرانية عليه، وهذا الامر يتيح للاعبين المحليين المحسوبين على السعودية ممارسة لعبة التضييق على حزب الله وحلفائه دون الوصول الى مرحلة الصدام.
هذا التفاهم، بحسب اوساط دبلوماسية في بيروت يترنح ان لم يكن قد سقط بعد، ولم يعد هناك من ضمانة بان يكون «لبنان للجميع»، السعودية المربكة لم تبلغ حلفائها بان ثمة شيء كبير حصل، والغى كافة التفاهمات السابقة، هم يخوضون مغامرة قد يدفعون ثمنها لاحقا، فمنذ ان قررت السعودية «العدوان» على اليمن، وجد الايرانيون في الامر فرصة، انها سابقة يمكن البناء عليها، الرياض كسرت «المحرمات»، خرجت عن قواعد «اللعبة» في المنطقة، التوافق الضمني على الحرب «بالوكالة» اسقط بقرار سعودي «متهور» فتح «الباب» امام كافة القوى لوضع احتمالات التدخل المباشر على جدول اعمالها، تركيا اردوغان كانت اول من فهم خطورة الموقف، ابلغ الرئيس التركي الملك سلمان ان ما فعلته المملكة سيفقده ميزة التاثير الجغرافي في سوريا، استخباراته تدير المجموعات المسلحة من وراء الستار، في الميدان مواجهة مفتوحة مع الايرانيين على قاعدة «لا للتدخل المباشر»، ثمة خطوط حمراء التزم بها الجميع لمنع حدوث صدام اقليمي بين جيوش المنطقة، انقرة كانت تشعر بفائض قوة بحكم قدرتها على القيادة والسيطرة من خلف الحدود، حزب الله نجح في خلق توازن نسبي انطلاقا من الحدود اللبنانية، لكن استعجال الرياض في اتخاذ قرار المواجهة المفتوحة مع انصار الله قلب المعادلات وبات النقاش الروسي الايراني في مكان آخر.
ووفقا لتلك الاوساط، سعت السعودية للالتفاف على الدور الايراني وراهنت على امكانية عقد صفقة مع موسكو من أجل التفاهم معها على «حفظ» دور ومصالح روسيا في سوريا، ذهب ولي ولي العهد ووزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان إلى موسكو في حزيران الماضي، التقى بوتين وعرض عليه «الصفقة»، قال له يومها ان السياسة الاميركية في سوريا أفشل من ان يراهن عليها لن تحقق حسما عسكريا لصالح المعارضة السورية، ولن تساهم في فرض حل سياسي للأزمة السورية، وقدم ما اعتبره تنازلات للطرف الروسي من خلال التوافق على وجود مرحلة انتقالية، ولاحقا يتم التوافق على دور الرئيس في هذه المرحلة، وكان ولي ولي العهد يريد تفاهما دون ايران، وكان يشدد على ضرورة ان تاخذ روسيا مكانتها في الاقليم على حساب النفوذ الايراني، ومن أجل ذلك غضت الرياض الطرف وسكتت على زيادة التواجد العسكري الروسي في سوريا، وانطلق الاعلام السعودي للترويج قبل بدء الغارات لنظرية «طرطوس روسية افضل من ان تكون ايرانية».
ولكن ما لم يكن يدركه السعوديون تضيف الاوساط، ان في الغرف المجاورة كان وفد سياسي وعسكري ايراني رفيع المستوى يضع اللمسات الاخيرة على عملية «عاصفة السوخوي»، نائب قائد فيلق القدس قاسم سليماني انجز اللمسات الاخيرة مع القيادة الروسية، جاء بعدها سليماني بنفسه الى موسكو، ادخل تعديلات مهمة على «خريطة الطريق» والرزنامة العسكرية، حمل معه
خبر انتهاء تدريب 25الف من مقاتلي جيش الدفاع الوطني السوري، ومعه ايضا موافقة القيادة العليا في ايران على رفع مستوى حضور الحرس الثوري من مستشارين ومدربين الى قوات نخبة باتت جاهزة للانتشار في مناطق حيوية.
وانطلاقا من هذه المعطيات، فوجىء السعوديين بخطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الاسبوع الماضي، والذي ساوى فيه بين تنظيم «داعش» ومقاتلي المعارضة السورية، وتاكيده ان نظام الرئيس الأسد الوحيد الذي يقاتل الارهاب، بعدها صدم السعوديون حين استهدفت الضربات الجوية الروسية مواقع لقوات المعارضة السورية مثل جيش الفتح والجيش الحر في ريفي حمص وادلب. اكتشفت الرياض ان التدخل الروسي يأتي لمصلحة تحقيق انتصار للرئيس بشار الأسد، كانت تراهن على الوقت، هي لم تكن لتقبل باعادة احياء النظام السوري، لا يمكنها ان «تهضم» انتصارا إيرانيا في سوريا.
الرياض تتهم موسكو انها انقلبت على تفاهمات محمد بن سلمان – بوتين، وعلى تفاهمات تمت خلال لقاء الدوحة الثلاثي الذي جمع وزراء خارجية روسيا والولايات المتحدة والسعودية، حينها اصر الجبير على ان اي حل في سوريا لا يمكن اشراك ايران فيه، واي تسوية ستكون مع موسكو، الاسد مقبول فيه لفترة وجيزة، لكن ما يحصل على الارض يشير الى ان ثمة حسم عسكري لفرض تسوية ايرانية – روسية على الاطرف الاخرى، الأمر الذي جعل وزير الخارجية السعودي يخرج عن «طوره» ويؤكد على ان «الخيار العسكري « السعودي لاسقاط الاسد وضع على الطاولة وحين سئل الوزير السعودي هل يعني هذا تدخلا عسكريا سعوديا في الحرب الدائرة في سوريا أجاب باقتضاب «بكرا بتشوفوا».
ماذا يعني ذلك تجيب الاوساط الديبلوماسية، يعني ان كل ما حكي عن تفاهمات سابقة قد سقط، ولبنان ليس استثناء، تيار المستقبل يتحرك وفق معطيات قديمة، الرياض تتجه نحو زيادة دعمها العسكري لفصائل المعارضة السورية، وهذا يعني ان الحرب ستشهد خلال الأسابيع المقبلة تصعيدا كبيرا على الأرض، حزب الله جزء فاعل في هذه الاستراتيجية لن يقبل اي عملية الهاء في بيروت، ثمة قلق من انعدام الخيارات السعودية، هناك من يتحدث عن «فوضى» منظمة ومفتعلة لحشر الحزب وتوجيه رسائل «اقليمية» من بيروت، انها وصفة «انتحار» سعودية لحلفائها اذا ارتضوا القيام بهذه المهمة المحفوفة بالمخاطر. فهل تغامر الرياض؟ وهل يدفع «التيار الازرق» ثمن «لعبة» تتجاوز قدراته؟ لا اجوبة حاسمة.