منذ بدأت واشنطن تطبيق العقوبات على النظام الإيراني، وبعد إلغاء الإعفاءات واعتماد سياسة الضغط الأقصى لتصفير الصادرات النفطية الإيرانية، قالت طهران بالفم الملآن، إنها إذا حُرمت إمكانية بيع نفطها فستمنع الآخرين من ذلك، وعلى رأس الآخرين السعودية، التي أثبتت أنها الجهة القادرة على تعويض أي نقص نفطي للحفاظ على استقرار الأسعار، وبالتالي استقرار الاقتصاد العالمي. منذ ذلك الوقت تعرضت المنشآت النفطية وناقلات النفط العالمية وممرات التجارة الدولية في مضيق هرمز وفي باب المندب، لأكثر من 100 اعتداء، كانت خلفها على الدوام بصمات النظام الإيراني، الذي قرر عن وعي عدم انتظار نتائج العقوبات، وما أدت إليه حتى الآن من شح في العائدات المالية لإيران، وهو أمر مدمر، وذهب لفرض تغيير في جدول الأعمال عبر الساحات الطويلة؛ حيث استثماراته العسكرية، من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن، غير عابئ بالنتيجة التي يمكن أن تتأتى عن ذلك. وبعبارة أخرى، فإن طهران تريد إفهام واشنطن أنها بمواجهة عقوبات الحد الأقصى قادرة على مواجهتها بخطوات الحد الأقصى مهما كانت النتائج!
استهداف قلب صناعة النفط السعودي، في بقيق وهجرة خريص، بصواريخ «كروز» وبالطائرات المسيّرة، وبموافقة المرشد الإيراني، والتسبب ولو مؤقتاً في تراجع نسبته 5 في المائة من الاحتياجات النفطية للاقتصاد العالمي، إشارة لا تقبل الجدل بأن نظام الملالي ذاهب إلى أبعد مدى في خطواته الحربية، وغير عابئ بالتسبب في جر المنطقة إلى الحرب؛ لا؛ بل بات يعتقد أن الأضرار ولو كانت كارثية التي ستنجم عن الحرب، أقلّ تأثيراً على النظام الإيراني مما تحدثه العقوبات الاقتصادية الخانقة!
ما جرى من استهداف آثم للسعودية طال الاقتصاد العالمي ويرتب مسؤوليات دولية، والتضارب في الرؤى أو التردد في هذه المرحلة قد يشجع كثيراً حكام طهران على المضي في غيِّهم. الهجوم الإيراني كما وصفته بعض الجهات أشبه بـ«11 سبتمبر (أيلول)» سعودي – عالمي، ما يحتم رداً مناسباً يأخذ صفة العمل الوقائي الواسع، ويأخذ أطرافه بالاعتبار أن ذلك قد يؤدي إلى مواجهة؛ لأن البديل عن ذلك مشكلة فادحة. فغياب الرد سيفتح الباب واسعاً أمام «الحرس الثوري» للمضي في انتقاء الأهداف وضربها، مع تجنب أي هدف أميركي ولو مرحلياً، ومن ثمّ تكليف الحوثي إصدار بيانات التبني، وتكرار تصريحات روحاني – إردوغان المكذوبة، لتغييب مسؤولية حكام طهران، بالزعم أن هناك مسؤولية على المملكة؛ لأنها استجابت لطلب الشرعية اليمنية بالتصدي للانقلاب الذي نفذته الميليشيات الحوثية!
واضح أن طهران ذهبت إلى الحد الأقصى في استغلال أولوية الإدارة الأميركية، وما يراه الرئيس ترمب يخدم حملته الانتخابية للعودة إلى البيت الأبيض في ولاية جديدة، وهو لهذا الأمر بالذات أوقف في اللحظة الأخيرة الرد الأميركي على إسقاط طائرة «الدرون» الأميركية. ورغم ذهاب واشنطن للتشدد في العقوبات على إيران وميليشياتها، وآخرها فرض العقوبات على البنك المركزي الإيراني، مع وسمه بصفة الإرهاب، أي قطع كل علاقة له بأسواق المال العالمية، وهو الأمر الذي وُصِف على نطاقٍ واسع بأنه أشبه بوقف الأكسجين عن مريض في العناية الفائقة، فإن الاقتصاد الإيراني الذي دخل حالة موت سريري، لن يمنع طهران من التحرك تحت سقف الموقف الأميركي باستبعاد الحرب، وكذلك رفض دول الخليج له، والذهاب إلى توجيه ضربات من عيار الاستهداف الذي تعرضت له السعودية، مع ما لذلك من بعدٍ دولي.
المنحى العدواني لنظام الملالي، وتهديدات حسن نصر الله بدمار الأبراج ومدن الزجاج في السعودية والإمارات، مع كل ما يحمله ذلك من رغبات دفينة لنشر السواد والدمار، على ما نرى الأمثلة له في سوريا واليمن والعراق، وفي كل مكان امتد إليه النفوذ الإيراني، لا ينبغي إدراجه فقط في سياق ردِّ طهران على العقوبات التي تبرع إيران في استغلالها.. لا، بل إن إحكام السيطرة الإيرانية على العراق بعد لبنان، والوضع المفتوح في سوريا، عجّل مخطط الملالي استهداف السعودية وكل دول الخليج، وتتحين القيادة الإيرانية الفرصة للرد على «عاصفة الحزم»، التي مهما طال بقاء الميليشيات الحوثية في كهوف صعدة وازدادت جرائمهم، فدور التحالف العربي لدعم الشرعية اليمنية نجح حتى الآن في عزل الحوثيين، وكسر الكماشة الإيرانية الممتدة من العراق إلى اليمن، وهدفها استتباع المنطقة لدولة الولي الفقيه!
لقد أكدت السعودية أنها جاهزة للدفاع عن أرضها وشعبها. ولا شك في أن الرياض تمتلك كثيراً من الأوراق الدفاعية والهجومية في مواجهة العنجهية الإيرانية، وفي الوقت نفسه طالبت المجتمع الدولي بخطوات حاسمة، عندما نبهت إلى أن الاستهداف يتجاوزها، والعالم يمرُّ في وضع اقتصادي متراجع، وبالمباشر هناك مسؤولية على كل الدول التي بنت الجزء الأكبر من نهضتها الاقتصادية استناداً إلى النفط السعودي والخليجي؛ لأن ما تسعى إليه إيران يستهدف مصالح الجميع. هنا بالضبط ينبغي أن يتبلور المستوى الآخر من الرد، الذي يقوم بداية على عزل نظام الملالي، الذي حوّل إيران إلى دولة مارقة باتت قاب قوسين من التحول إلى دولة نووية!
الأمر الأكيد أن طهران كشفت أن لا حدود لاستهدافاتها، للدول والأفراد. فبعد الاعتداء الآثم على السعودية، وتتالي التهديدات الإيرانية بـ«حرب شاملة»، وتحويل المنطقة «ساحة معركة» بعيداً عن الأراضي الإيرانية، وبعد الأدلة التي تضمنها القرار الاتهامي الصادر عن المحكمة الدولية في لاهاي، باتهام قيادي في «حزب الله» في جريمة اغتيال جورج حاوي، كما في محاولتي اغتيال الوزيرين مروان حمادة وإلياس المر، وبالتالي مسؤوليتها عن كل ذلك، وهو الأمر الذي أعاد إلى الأذهان الدور الإيراني في كل الاغتيالات التي عرفها لبنان، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، فإن السؤال الحقيقي بعيداً عن الاستنكار والتضامن اللفظي: أما آن أوان انتزاع المبادرة من النظام الإيراني، بعدم الاكتفاء بخطوات محض دفاعية؟ وهي خطوات لن توقف نظام الملالي عن هضم ما حققه من هيمنة وتوسع، ليستأنف بعد ذلك وفق التوقيت الذي يراه المرشد، دفع المنطقة إلى الهاوية، وعندها لا يمكن تصور الأثمان المترتبة؛ لأنها قد تكون فلكية!