Site icon IMLebanon

هل آن الأوان للتعاطي المسؤول مع قضية البترول والغاز؟

ثلاث مبادرات جديدة توحي بأن سياسة البترول والغاز في لبنان قد وصلت الى المنعطف المرجو للانتقال من الانحرافات وشتى الأخطاء الى وضع أسس سليمة وواضحة لاستثمار الثروة الموعودة. ومن المشجع ان كل هذه المبادرات اتخذها مسؤولون يقفون في الصف الأول بين صانعي القرار في السلطتين التشريعية والتنفيذية.

÷ المبادرة الاولى صدرت عن الرئيس نبيه بري لحل النزاع القائم منذ عام 2010 مع اسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية. ومن المؤلم ان سبب هذا النزاع كان في آن واحد اول خطوة يخطوها لبنان وأول خطأ يرتكبه بعض المسؤولين عن ارساء قواعد سياسة البترول والغاز الوطنية. كما ان هذا الخطأ الباهظ الثمن كان اول مثال حي لانعدام الجدية اللازمة في معالجة موضوع بهذا الحجم. وذلك لان السبب كان بكل بساطة تسرع المفاوض اللبناني في قبول خط أعوج عند رسم الحدود البحرية مع قبرص عام 2007، والذي استغلته اسرائيل عند رسم حدودها مع قبرص عام 2010 بشكل يسلخ 860 كم2 تقريبا من المياه اللبنانية التي تغطي، على الأرجح، مكامن غنية من البترول وخاصة الغاز. ومن المعروف ان الوفد اللبناني كان يضم مهندسين فقط مقابل تسعة خبراء محنكين من الجانب القبرصي.

÷ المبادرة الثانية يعود الفضل فيها الى الرئيس تمام سلام الذي برهن عما يلزم من الحكمة ومتانة الأعصاب للوقوف في وجه الضغوط الضخمة التي كان يتعرض لها من اكثر من جهة، لإقرار مشروعَي مرسومَين يتضمنان لب وجوهر الشروط الغريبة من نوعها المقترحة لاتفاقيات الاستكشاف والانتاج. والأهم من ذلك ان الرئيس سلام لم يكتفَ بمجرد الرفض، بل وضع اصبعه على الجرح عندما أكد في تموز الماضي على ضرورة «التأني» وضرورة التدقيق بكل موضوعية وجدية في كل الأوجه الفنية والمالية والاقتصادية لعقود تلزم البلد لمدة لا تقل عن اربعة عقود، خاصة ان أي نقص في واحد من الشروط قد يترجم بخسارة مليارات الدولارات، وان أي اتفاق يوقع مع شركات عملاقة متعددة الجنسية يصبح من شبه المستحيل التراجع عنه.

÷ اما المبادرة الثالثة التي لا تقل اهمية عما سبق فقد اطلقها في اواخر آب/اغسطس الماضي النائب محمد قباني، رئيس لجنة الاشغال العامة والنقل والطاقة والمياه في المجلس النيابي، حين قام بتنظيم ورشة عمل حول «ادارة قطاع النفط والغاز وحوكمته في لبنان». ولحسن الحظ ان السيد قباني قد اختار الصراحة واستعمال لغة لم تكن مألوفة عندما فاجأ الحضور في كلمة افتتاح ورشة العمل المذكورة بالقول: «إن أسوأ ما في مسيرة النفط والغاز الحالية هو الغموض الذي يحيط بالمعلومات ومحاولة احاطتها بإطار من السرية، حتى على المجلس النيابي. وهو أمر معيب يجب ان نخجل منه وننقلب عليه؛ فحق الوصول الى المعلومات في قطاع النفط والغاز كبير الأهمية خصوصا بالنسبة الى المهتمين من اللبنانيين، فضلا عن المتابعين الأجانب، وهو بالتالي يلقي ظلالا من الشك على العمل في هذا الملف». كما أكد بالحرف الواحد: «لن نقبل باستمرار هذا الغموض وهذه السرية المريبة، وسنقوم بكل ما علينا من أجل ضمان حق النفاذ الى المعلومات، أي الى الشفافية في قطاع الموارد البترولية»، مضيفا ما يكاد لا يصدق: «إننا وحتى الآن لم نحصل على معلومات حول المرسومَين الموجودَين لدى مجلس الوزراء، وهذا أمر مستغرب ومرفوض من مجلس النواب، وهو سلطة الرقابة العليا في البلاد»؛ قبل ان ينتهي بالتأكيد على ضرورة «الشفافية الكاملة في أعمال النفط والغاز وعلانية المناقشات ووجوب العمل فورا على وضع سياسة نفطية لبنانية واضحة الأهداف وحديثة».

ولم يكن من المستغرب ان يعترض الحاضرون من اعضاء هيئة البترول على ما قاله النائب قباني وان يكرر رئيس القسم القانوني في الهيئة ذاتها ما سبق وأكده في العديد من المناسبات حول حرص الهيئة المذكورة على احترام «المنظومة التشريعية» الراهنة في هذا المجال، والعمل دوما بشفافية واضحة «وضوح الشمس». الا ان المؤسف هو ان تبلغ احتجاجات بعض ممثلي الهيئة المذكورة درجة من الحدة لا تليق لا بروح المسؤولية المطلوبة في معالجة موضوع بمثل هذه الأهمية، ولا بمخاطبة ممثلي الشعب اللبناني، وتحت قبة البرلمان، من قبل موظفين في احدى الوزارات. مما ادى الى الاستياء العام الذي اشارت اليه وسائل الإعلام.

يبقى ان المهم ليس التصرفات النابية ولا الحديث عن العموميات او وضوح الشمس والقمر. المهم هو العودة الى الوقائع الحسية والحقائق التي يشكو النائب قباني وغيره من «استمرار الغموض والسرية المريبة» حولها. هذه الحقائق التي لا مفر منها والتي سبق لكاتب هذه الاسطر أن تناولها بإسهاب في كتابَين وفي العديد من المقالات التي نُشرت في «السفير» بشكل خاص، وهي تكشف أنها تشكل مجموعة متكاملة من «خطة» بترولية صممت من الأساس لا لخدمة اللبنانيين اصحاب هذه الثروة، بل لتأمين مصالح بعض تجار السياسة ومن يدور حولهم من «رجال الأعمال» والسماسرة. وقد بوشر بوضع هذه الخطة تباعا موضع التنفيذ وفق المراحل الرئيسية التالية:

1 ـ المرحلة الأولى والتأسيسية، بكامل معنى الكلمة، كانت بشكل تزوير صارخ لنص وروح القانون البترولي 132/2010، عن طريق مشروع المرسوم التطبيقي المسمى Exploration and Production Agreement الخاص بمسودة اتفاقيات الاستكشاف والانتاج؛ ذلك لان واضعي هذه المسودة من اعضاء هيئة البترول ومن يقف وراءهم قد تجاهلوا كليا نظام تقاسم الانتاج المعروف في كل انحاء المعمورة والذي نص عليه القانون صراحة، ليستعيضوا عنه بما يسمونه «تقاسم الارباح» الذي لا وجود له في أي بلد آخر والذي يشكل في الواقع عودة مقنعة لما هو أسوأ بكثير، سياديا وماليا، من نظام الامتيازات القديمة التي اصبحت في خبر كان منذ سبعينيات القرن الماضي.

2 ـ المرحلة الثانية التي مهد لها تزوير القانون كانت إبعادا كليا للدولة عن المشاركة وعن مواقع المسؤولية واتخاذ القرار في الأنشطة البترولية، كما تنص على ذلك صراحة المادة 5 من مسودة EPA. هذا الفراغ الذي خلفه تعطيل دور الدولة والتمنع عن انشاء شركة نفط وطنية، ملأه قيام هيئة البترول بتأهيل شركات بترول وهمية تم تأسيسها قبيل مهزلة التأهيل، وبعض الشركات الصغيرة، بما في ذلك شركات ملاحقة قضائيا في الخارج، للحصول على حقوق استكشاف وانتاج. اما الهدف فهو فرض هذه الشركات الصغيرة او حتى الوهمية، ومن تمثله من وجوه محلية ملثمة، كشركاء مع الشركات الكبرى متعددة الجنسية التي تقوم بدور المشغل (Operator). وهكذا تكتمل الحلقة ويتم نقل ملكية جزء من البترول او الغاز المكتشف من الدولة والشعب اللبناني الى بعض تجار السياسة والوسطاء…

3 ـ انحرافات وتجاوزات اخرى: بغية تحقيق الهدف المنشود، اي تأمين بعض المصالح الخاصة على جناح السرعة، لم يبخل واضعو مسودة الـ EPA المذكورة بأي من التدابير الاخرى اللازمة لإغراء الشركات الأجنبية وحملها على التفاوض لإبرام اتفاقيات استكشاف وانتاج. وفي طليعة هذه التدابير إتاوة تعيسة لا تتجاوز 4% على الغاز، وانعدام المراقبة على عملياتها وحساباتها، وعدم اصدار قانون ضريبي جديد يتماشى مع ما هو معمول به في العالم، …الخ.

تضاف الى ذلك عقود المسح البحري والبري التي تمت بالتراضي خلافا للقانون، والاساليب المهينة التي استعملت لتضليل الرأي العام حول مسيرة البترول والغاز، من نوع التغني بانتهاج «النموذج النروجي» او المتاجرة بالخطر الاسرائيلي وبضرورة إطفاء الدين العام للضغط على الحكومة بغية إقرار شروط استثمار لا يمكن ان تقبل بها البلدان الأكثر فسادا في العالم.

ولم يعد مفاجئا بعد هذا كله ان يشكو رئيس لجنة الطاقة في المجلس النيابي، كما يشكو كل من وعى خطورة الموضوع ونتائجه الكارثية، من «السرية المريبة»، سرية تنص عليها اصلا وبالحرف الواحد المادة 35 من مشروع مرسوم EPA تحت عنوان «الالتزام بالسرية»!…

هذا الوضع يستدعي:

1 ـ فتح حوار وطني علني وصريح على شاشات التلفزيون وغيره من وسائل الإعلام.

2 ـ إعادة النظر بشكل جذري في مشاريع نصوص تشريعية هدفها نهب جزء من الثروة الموعودة.

3 ـ محاسبة كل من ساهم في محاولة تضليل واختلاس كان من شأنها لو نجحت، لا سمح الله، ان تصبح أكبر فضيحة في تاريخ الجمهورية اللبنانية.