اختار أحد أهم صناع الرأي في الهند المعاصرة، وأحد أهم المؤرخين لها، رمشندرا غوها، أن يأتي على ذكر تجربة لبنان بمناسبة الذكرى الثامنة والستين لاستقلال بلاده. فكما يتصدّى غوها لمقولات اليمين القومي الديني ويرفض أن تكون الهند للهندوس فقط، أو أن تكون «باكستان هندوسية» مثلما هي باكستان «هند اسلامية»، فإنّه وجّه النقد لنزعة النوستالجيا الطافحة لزمن كانت فيه شبه القارة الهندية لا تزال موحدة، وهذه تتحول الى نزعة مأتمية عند بعض المثقفين عشية كل ذكرى استقلال. لذا كتب غوها في «الهندوستان تايمز» ما معناه انه، وعلى رغم الطابع الكارثي لمآسي الانفصال على أساس طائفي – ديني عام سبعة وأربعين، وقيام دولتين هندية علمانية دستورياً وباكستانية اسلامية قومياً وليس فقط دينياً، فإنّه ينبغي تثمين صنيع آباء الاستقلال لأنهم رفضوا ان وحدة البلاد بمركز ضعيف، وآثروا التقسيم في مقابل قيام مركز قوي، ويصل غوها الى انه لو اعتمد الخيار الاول، اي استمرار وحدة شبه القارة الهندية، بنسب متقاربة من الهندوس والمسلمين، وبمركز ضعيف، لكانت الحال الكيانية ستكون بهشاشة تجربة .. لبنان.
طبعاً، ليس سهلاً ان تكون لبنانياً وتتقبل على الرحب مثل هذا الحديث. لكن المسارعة للتفتيش عن اول حجج تخطر في الذهن لمناقضة ما يقوله غوها ستجعلك لا تستفيد من المقارنة الكيانية التي يقترحها، وتفوت عليك الفرصة للخروج من المماحكات اليومية للسجال الداخلي، الى ما به تستقرأ تجربة تآكل المؤسسات الدستورية وجسم الدولة اللبنانية بهذا الشكل المستفحل بعد ربع قرن على انتهاء الحرب الاهلية.
لكن اللذيذ في الموضوع ان غوها يميز بين كيان تأمنت فيه غلبة دينية، الهند المستقلة، من دون ان يضبط نفسه بدين للدولة، كما باكستان، وبين لبنان، الذي قام على ثنائية اسلامية مسيحية أو تدرّج نحوها، ويقابل بسبب ذلك بين تجربة بمركز قوي هي الهند وتجربة بمركز ضعيف هو لبنان، هذا على الرغم من ان الهند دولة فدرالية ولبنان دولة مركزية، وعلى الرغم من الهند بلد يمكن ان تتحدث فيه عن العواصم بالجمع، دلهي ومومباي وكولكاتا وشيناي، في مقابل تركز اكثرية اللبنانيين في بيروت وضواحيها. لبنان يبدو بدن برأس أكبر منه، وهذا ما يلعب بشكل أو بآخر دور في تعطيل هذا الرأس، وهذا البدن.
المشترك بين لبنان والهند هو عدم تبني اي منهما لدين للدولة، وان كانت الهند تذهب لابعد من ذلك في علمانية الاحوال الشخصية بالنسبة لغير المسلمين، وتغيب فيها الكوتا الطائفية الرسمية، في حين ان الدولة اللبنانية علمانية من جهة الاستقلال المتبادل بينها وبين الكنائس وغير علمانية من جهة المؤسسات الدينية الاسلامية، وغير علمانية في الحالتين من جهة الاحوال الشخصية، وغير علمانية ابداً من جهة التوزيع الطائفي للمقاعد النيابية والوزارية والرئاسات.
لكن حتى المشترك بين البلدين يتعرض لاعادة نظر. تيار «الهندوتفا» بمعنى الهند للهندوس، يريد ربطاً عضوياً على كل الصعد الممكنة، بين الهندوسية، اذ يعاد تعريفها كدين قومي، وبين الهند اذ تعرّف كوطن للهندوس، ما يطعن في وطنية مئة وخمسين مليون مسلم، بشكل أو بآخر. في الوقت نفسه، تعيش الهند موجة من نزعات تعميق الفدرالية والذاتيات الاقليمية، في مواجهة المعادلة التي أقامها جيل الاستقلال وحزب المؤتمر: معادلة الفدرالية بمركز قوي.
أما الاستقلال اللبناني فاستبعد الفدرالية الجغرافية منذ البدء، واعتمد مبدأ الدولة المركزية، انما بمركز قرار آيل الى التعطّل. كانت الحجة في زمن الجمهورية الاولى ان صلاحيات رئيس الدولة اوسع من ان يمكن له الواقع اللبناني ان يستخدمها وهذا ما يعود فيعطل دوره، ويعطل مؤسسات الدولة. صارت الحجة في زمن الجمهورية الثانية منقسمة بين من يرى انها تستند الى معادلة تضيّع مركز القرار، أو توزعه هباء، أو تنقله من هذا الى ذاك، دون استعداد لموافقة الجميع على ذلك. في الحالتين، تستمر صحة بعض ما قاله رمنشندرا غوها، حول لبنان كتجربة كانت أفضل للهند المستقلة انها لم تقتبسها، وان آباء الاستقلال الهندي الذين رفضوا في آن واحد الدولة المركزية والدولة الملتزمة بدين لها، واعتمدوا الفدرالية وكرسوا التعددية اللغوية، الا انهم وقفوا بالمرصاد لكل طرح كان سيؤدي الى قيام كيان هجين، يعطّل ذاته بذاته، وبمركز مهلهل، هش، ضعيف.
الرغبة في تقوية المركز زيادة عن اللزوم، باتجاه ابوي في زمن جوهرلال نهرو، وتسلطي في زمن ابنته انديرا غاندي، وقومي ديني اصولي، مع رئيس الوزراء الحالي نارندرا مودي، كانت دائماً تعيق التطور الديموقراطي وتعرّض التجربة الدستورية الهندية لفترات اختبار، وان ظلت حيوية الاحزاب والمجتمع المدني والنزعات المناطقية ومناعة المؤسسة القضائية تساعد التجربة على المضي بسلام، وحتى الساعة لم تتحول الهند الى «باكستان هندوسية» كما يشدّد غوها، كما انها في لحظة انفصالها عن باكستان، أعفت نفسها من الاحتمال اللبناني.
في المقابل، الرغبة بتقوية مركز اتخاذ القرار ظلت تقود لبنانياً الى اضعاف المركز، دون ان يتمخض عن ذلك لامركزية الدولة بأي مستوى من المستويات، وما نعيشه اليوم هو تذكير يومي متماد بأنه لا يمكن احتمال لذلك لفترة طويلة مقبلة. تقوية المركز بلامركزية الدولة، قد تبدو معادلة مضغوطة، مبهمة بعض الشيء، لكنها ستخطر في البال عندما نأخذ بجدية اختيار غوها الحديث عن نجاح التجربة الهندية بمقابلتها مع الحال اللبنانية.