IMLebanon

هل لبنان بصيغته القديمة انتهى ولهذا السبب متروك للاهتراء؟

لم يعد الحديثُ عن تقسيم الشرق الأوسط مجرَّدَ تنظير. إنه جوهرُ اللعبة، وفق ما بدأ يكشفه العالمون ببواطن الأمور. ومَن أدرى من المخابرات الأميركية والفرنسية بهذه البواطن؟ ولذلك، على الكيانات الشرق أوسطية كلّها أن تتحسَّسَ رؤوسَها، لا سوريا والعراق وحدهما. فهل سأل أحدٌ: ما مصير لبنان؟

عندما يقول برنار باجوليه إنّ «الشرق الأوسط الذي نعرفه قد انتهى إلى غير رجعة»، فالأمر يجب أن يُؤخذ على محمل الجدّ. لا لأنّ الرجل هو رئيس جهاز الإستخبارات الخارجية في فرنسا فحسب، بل خصوصاً لأنه أحد كبار الخبراء في الشأن العربي، وربما أحد صانعي الحدث في «الربيع العربي» منذ انطلاقه.

فهو تنقَّل من مواقعه كسفير لفرنسا في بلدان عربية ملتهبة كالعراق والجزائر، حتى 2006، ثمّ كمنسِّق أجهزة الاستخبارات في الإليزيه، مع الرئيس نيكولا ساركوزي، حيث كان عليه أن يدير 14 ألف رجل بين فرنسا وخارجها.

وهو استعان في تلك الفترة بمساعدين من أصول جزائرية في المهمات التي نفذها الجهاز ضدّ الإرهاب التكفيري، قبل أن يتولّى سفارة بلاده في أفغانستان، ويعود مع الرئيس فرنسوا هولاند إلى رئاسة الإستخبارات الخارجية، حيث يدير نحو 5 آلاف رجل.

وسبق للرجل أن عمل في السفارة الفرنسية في سوريا في التسعينات، ثمّ كان سفيراً في الأردن. وهو يوصف بأنه من الشخصيات الفرنسية الأكثر خبرة بالشرق الأوسط والعالمَين العربي والإسلامي، وهو يتقن العربية جيداً. ولكن، هناك جدل حول ما إذا كان يتوقع اندلاع أحداث «الربيع العربي»، بدءاً بتونس، حيث جرت الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي، حليف باريس.

إذاً، واستناداً إلى ما يملكه باجوليه من معلومات حول مجريات الأحداث في الشرق الأوسط، منذ 2011، هو يدرك أنّ هذا الشرق انتهى إلى غير رجعة، وأنّ «دولاً مثل العراق وسوريا لن تستعيد حدودها أبداً». فـ»النظام في سوريا لا يسيطر إلّا على ثلث البلاد، و»داعش» على المنطقة الوسطى، والأكراد يسيطرون شمالاً». ويضيف: «الأمر عينه ينطبق على العراق».

وللتأكيد، يقول رئيس وكالة الإستخبارات الأميركية CIA، جون برينان، إنه يوافق زميله الفرنسي في رؤيته: «إذ يصعب تخيُّل سلطة مركزية تسيطر على هذه الدول داخل الحدود التي رُسِمت بعد الحرب العالمية الثانية».

وليس برينان أقلّ انغماساً في العالمَين العربي والإسلامي من زميله الفرنسي. فهو درس اللغة العربية والدين الإسلامي، حتى سرت شائعات قبل سنوات مفادها أنه اعتنق الإسلام في الفترة التي كان يعمل فيها مديراً لمحطة الاستخبارات في السفارة الأميركية في المملكة العربية السعودية بين 1996 و1999.

وهكذا، يبدو مُهِمّاً الاستنتاج الذي خرج به هذان الرجلان حول مستقبل الشرق الأوسط: مستحيلٌ أن تعود الكيانات إلى حدودها السابقة.

ويقرأ بعض الخبراء الاستراتيجيين هذين الإعلانين باعتبارهما «اعترافين» من القوّتين العاليتين الأبرز حول نظرتهما إلى مستقبل الشرق الأوسط، وتالياً إلى مجرياته، ولاسيما في المرحلة التي أعقبت توقيع اتفاق فيينا مع إيران والتدخُّل العسكري الروسي المباشر في سوريا.

ويستنتجون الآتي:

1- لن يكون أيّ طرف داخلي قادراً على حسم المعارك في سوريا أو العراق. وسيتواصل القتال بين القوى الداخلية، المدعومة إقليمياً، وسيُصاب الجميع بالإنهاك إلى أن تتمّ تسوية يحتفظ فيها كلٌّ منهم بالبقعة «المكتوبة له».

وهكذا، فإنّ روسيا وإيران ستتمكنان من منع سقوط الرئيس بشّار الأسد، وستضمنان له السيطرة على المناطق الحيوية، لكنّ «داعش» باقية بقوة عدم القدرة على إنهائها. وستبقى مسيطرة على وسط سوريا، وتؤمِّن ارتباطها الجغرافي بالبقعة «الداعشية» العراقية.

2- سيكون مصير العراق مشابهاً لمصير سوريا، بل مرتبطاً به عضوياً، لأنّ الحدود المرسومة بين الكيانين السابقين باتت ملغاة بحكم وقوعها تحت سيطرة «داعش».

3- لن تنهزم «داعش»، لأنّ عملية استهدافها ليست جدّية، لا من جانب الأميركيين ولا الروس. أما الإيرانيون والإسرائيليون والأتراك فلكلٍّ منهم حساباتُ ربح وخسارة، ظاهرة وخفيّة، في التعاطي مع ملفّ «داعش».

4- يبقى الملف اليمني أداة اهتزاز لأمن الخليج العربي. والمقايضة التي يعتقد البعض أنها وقعت بين القوى الدولية والإقليمية هناك هي الآتية: الخليجيون العرب يأخذون في اليمن ويعطون في سوريا. وهذه المعادلة لها تاريخ صلاحية قد يدوم إلى فترة غير محدَّدة. لذلك، لا يُفاجَأ الخبراءُ بسكوت القوى الدولية والإقليمية كلها على التدخُّل الروسي الفاضح في الحرب السورية.

5- سيكون هناك مجال كافٍ لإسرائيل لكي تعالج الملف الفلسطيني على طريقتها، وتحت الضغط. فالعرب منشغلون بأنفسهم وكياناتهم وأنظمتهم، والقوى النافذة منشغلة بما ستحصل عليه من مكاسب في «الشرق الأوسط الجديد»… وهي بآلاف المليارات من الدولارات، نفطاً وغازاً ومياهاً وصفقات سلاح هائلة واستثمارات لا حصر لها.

ويبدو الفلسطينيون اليوم مستفردين تماماً، عربياً ودولياً، وسط تلاشي الطموح إلى «الدولة الفلسطينية» الموعودة. وأما «الحق في العودة» فهو يتبخَّر، وسط المخططات الخبيثة لتوطين الفلسطينيين في دول الشتات. وسط كلّ هذا، يُطرح مصير كيانين: الأردن ولبنان. وكلاهما يتأرجحان ويقاومان الانحدار في المنزلق الخطر.

ويقول الخبراء إنّ هناك إرادة دولية واضحة لحماية الأردن ولبنان من الإنهيار حالياً، خصوصاً تحت وطأة النزوح السوري ومستتبعاته الاقتصادية

والاجتماعية والديموغرافية. فغالبية سكان الأردن أساساً من الفلسطينيين. أما لبنان فبات النازحون فيه أكثر من نصف السكان.

فكيف سيعالج لبنان هذه الثغرة فيما المجتمع الدولي يضغط عليه لاستقبال المزيد، وفيما تُنذر الحملة الروسية – الإيرانية المتوقعة في محاذاة الحدود اللبنانية بتدفُّق كثيف للنازحين، يقول البعض إنه قد يقارب النصف مليون نسمة؟

في الموازاة، يبقى السؤال الأكبر: إذا كان الأسد سيحتفظ بالمنطقة المحاذية للحدود من عكار شمالاً إلى البقاع شرقاً وجنوباً، ويترك المناطق الداخلية الوسطى، فهذا يعني أنّ حليفه «حزب الله» سيحتفظ بسيطرته على البقعة اللبنانية المحاذية، ليصبح الكيانان العلويان- الشيعيان في لبنان وسوريا متلازمَين.

وسيكون ذلك التلازم العلوي- الشيعي مقابلاً للتلازم «الداعشي» على الحدود السورية- العراقية. وقد يكون هناك أكثر من منطقة نفوذ سنّية في سوريا، لكنّ منطقة الحدود مع العراق تبدو محكومة بـ«داعش»!

وهنا، يُطرح السؤال عن مصير لبنان، إذا أصرّ «حزب الله» على الاحتفاظ بنفوذه في المناطق البقاعية والجنوبية، وعلى هامش تدخُّله في سوريا لمصلحة الأسد. فهذا الواقع سيعني انتهاءَ لبنان بصيغته القديمة. وسيبحث الجميع عن لبنان جديد، وفقاً لما ستفرزه الوقائع السورية… إذا أتيح لهم البحث!

هل لهذه الأسباب متروكٌ لبنان للاهتراء؟ وهل هذا يعني أنّ لبنان القديم سينتهي كما سائر دول الشرق الأوسط القديم، وفق توقّعات الأميركي والفرنسي الأكثر اطّلاعاً ومعرفة على خلفيات الأمور؟

ربما ينتظر الباحثون جواباً من مسؤول لبناني، يطرحه عبر الأقنية الديبلوماسية على واشنطن وباريس عن فحوى كلام الرجلين، وعن موقع لبنان في هذا السيناريو الذي يقول عنه باجوليه إنه «إلى غير رجعة».

ولكن، من أين للبنان أن يكون فيه مسؤولون؟