IMLebanon

هل يصمد لبنان في وجه الصراع السنّي – الشيعي؟

منذ ما قبل الثورة الخمينية ببعيد، منذ الجاهلية، وحروب وغزوات العرب ضد بعضهم البعض لم تتوقف يوماً. قبائل وعشائر تتقاتل لسنوات وعقود طويلة لأسباب تافهة، وآلاف الضحايا تسقط من دون سبب. في الجاهلية، عقود طويلة من الحروب. من حرب «داعس والغبراء»، إلى حرب «البسوس».

وفي العصر الإسلامي، من حروب «الردّة» إلى مقْتل عثمان، ثـم إلى حروب الإمام علي بن أبي طالب، إلى صلْح الإمام حسن مع معاوية ومقْتل الإمام الحسن، ثم مقْتل الإمام الحسين على يد يزيد بن معاوية، وحروب بني أميّة ضد أهل بيت رسول الله، وحروب العباسيين لبني أمية… تاريخ من الحروب والقتل والذبح والتدمير.

نشأ الخلاف بين السنّة والشيعة على أثر إغتيال الخليفة الثالث للمسلمين عثمان بن عفان. ونشأت نزاعات بين الإمام علي بن أبي طالب الذي تمّت مبايعته كخليفة رابع للمسلمين وبين معاوية بن أبي سفيان والي الشام حول موضوع الثأر من قتلة عثمان.

وإلى جانب بعض الخلافات الفقهية من موضوع العصْمة، والصحابة، والسيدة عائشة أم المؤمنين… الخ. فالنقطة الرئيسة في الخلاف بين السنّة والشيعة تعود إلى الشخصية التي تخلف رسول الله محمد في قيادة الأمة.

بدأ الخلاف بعد وفاة الرسول محمد سنة 632م، وشهر كلُّ فريق سلاحه في وجه الآخر للتقاتل وليتحوّل الأمر من جدال ونقاش إلى تكفير وحروب ودماء لا تنتهي. منذ القرن السابع الميلادي والصراع ما زال مستمراً ويحصد كلَّ يوم مئات الضحايا.

حصل التغيير الجذري بالنسبة للشيعة مع قيام الدولة الصفوية عام 1501 في إيران على يد إسماعيل الصفوي، وتمّ إعتناق المذهب الشيعي الإثني عشري مذهباً رسمياً لإيران وسكانها، لتتحول إيران من المذهب السنّي إلى المذهب الشيعي.

وفي العام 1979 قامت الثورة الإسلامية فـي إيران ضدّ حكم الشاه فتسبّبت في تأجيج الخلافات بين الجانبين السنّي والشيعي، والخلاف الذي بدأ كصراع فكري تحوّل مع مرور الزمن إلى صراع سياسي ثم إلى مواجهات مسلّحة. بين 1980 و1988 وخلال الحرب بين إيران والعراق، ساندت السعودية وحلفاؤها العراق تحت حكْم صدام حسين كحصن ضد إيران الثورة.

وفي عام 1987، قُتل أكثر من 400 شخص في مكة عندما نظّم حجاج إيرانيون مظاهرة سياسية واشتبكوا مع قوات الأمن السعودي، ما أدّى إلى ثلاث سنوات من قطْع العلاقات الديبلوماسية، ثم جاء الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 ليوقظ من جديد وحش الطائفية في المنطقة ويبلغ ذروته وشدّته بعد ثورات الربيع العربي. وهكذا، أصبحت الدول العربية والإسلامية في الشرق الأوسط مقسّمة على أساس طائفي لا على أساس وطني أو قومي.

من اليمن إلى البحرين، ومن العراق إلى سوريا ولبنان، تدعم كلٌّ من طهران والرياض مجموعات أو دول تشاطرها مذهبها، وتستخدم العصبية المذهبية كأداة تفيدها في تحقيق أهدافها السياسية، لكن هذه الأداة خطرة ومُكلفة بسبب التداعيات والنتائج التي تتركها على المجتمعات.

وعلى الرغم من التبدلات التي تسيطر على الـمشهد الإقليمي، لا يبدو أنّ مرحلة الحلول السلمية ستبدأ في وقت قريب، ويبدو أنّ المواجهة مستمرة بين السعودية وإيران وتتفاقم بشكل تصاعدي، وكلّ الدلائل تشير إلى الرغبة الجامحة عند الطرفين في كسْر بعضهما البعض.

فالرياض التي شعرت بأنّها محاصرة بالنفوذ الإيراني المتمادي في العراق واليمن وسوريا ولبنان، إنتفضت على واقعها المتردّي وقرّرت المواجهة من دون رحمة، وهذا ما يفسّر الإجراءات القاسية التي إتخذتها بحق لبنان ردّاً على خروج الديبلوماسية اللبنانية عن الإجماع العربي، الذي دان بشدّة إحراق سفارة المملكة العربية السعودية في طهران، وإعلان المملكة إيقاف الهبة التي كانت أُقرّت في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز في آب 2014 لتسليح الجيش اللبناني وقيمتها ثلاثة مليارات دولار أميركي، وإيقاف ما تبقّى من المساعدة المقرّرة بمليار دولار المخصّصة لقوى الأمن الداخلي.

ويأتي القرار الذي إتخذته دول مجلس التعاون الخليجي إعتبار «حزب الله» منظمة إرهابية ليزيد من حدّة التوتّر بين الرياض وطهران ويؤجّج الصراع السنّي – الشيعي في كلّ المنطقة ويهدّد أمن لبنان واستقراره.

حتى اليوم، لا تزال المواجهة السعودية – الإيرانية سياسية في لبنان، ولم تتحوّل عسكرية بفضل المظلّتين الدولية والإقليمية، ولكنّ السؤال الذي يقضّ مضاجع اللبنانيين ويقلقهم، كيف لهذه المواجهة أن تستمرّ سياسية ولا تنزلق إلى صراع داخلي مسلّح فـي دولة فقدت كلَّ مقوّمات الدولة؟

إلى أيّ مدى يستطيع الوطن الصغير الصمود في هذا المناخ من التوتر الطائفي والمذهبي وأمام المحن الإقتصادية والإجتماعية الناجمة من عدم الإستقرار، ومن غياب الرئيس وشلل الحكومة والمؤسسات، إضافةً إلى وجود مليون ونصف مليون من النازحين السوريين على أرضه؟

حالياً، يعيش اللبنانيون في قلب العاصفة، ووطنهم المشرذم والمشلّع تزنّره الحرائق من كلّ صوب، ومحكوم عليه بأن يبقى متخبِّطاً فـي الإضطرابات الأمنية والأزمات السياسية والإقتصادية بانتظار ما ستؤول إليه كوارث الحرائق في هذا المشرق العربي الملتهب.

لقد عوّدنا زعماؤنا بفضل تبعيّاتهم وأنانياتهم وجهلهم على هذا النمط من الحياة، وتعوّدنا العيش خانعين في «الزبالة» والأوساخ فـي وطن سائب من دون رئيس ولا مؤسسات، ومن دون إستقرار ولا أمان. فأرجو أنْ لا نتعوّد قريباً على إستسهال لعبة الموت ونبش القبور ونحن نردّد عن قناعة مع إيمانويل كانت: «السلام الدائم موجود فقط في المقابر»!

مختار الجديدة باحث وكاتب سياسي