يتحدث البعض عن انحسار الدور السعودي في لبنان على خلفية فوز نواب «حزب الله» وحلفائهم بغالبية المقاعد في الانتخابات النيابية التي أُجريت الإثنين الماضي. هذه النتيجة لم تأت من فراغ وليست انتصاراً لسياسات ورؤى «حزب الله» التنموية تجاه لبنان؛ هذه النتيجة تحققت بسبب البندقية والمتفجرات، ولأن لا السعودية ولا أي حليف دولي للبنان يمارس مثل هذا الابتزاز؛ فطبيعي أن ينجح «حزب الله» في تخويف المرشحين وكسب تأييدهم، على أن هذا الفوز أتى بعد تعديل قانون الانتخابات الذي مهد له وهو التعديل الذي فرض بالقوة أيضاً.
ولكي نوضح الصورة بدقة أكبر، لا بد أن نعود إلى بعض الحقائق على الأرض. فمنذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط (فبراير) ٢٠٠٥ ولبنان يعيش حقيقة حالة من الطوارئ الخاصة التي أوجدها «حزب الله» على أرض الواقع عندما قرر المشاركة السياسية. بدأت هذه الحالة بتصفية كل من باسل فليحان والصحافي سمير قصير وجبران تويني وجورج حاوي في العام نفسه، في العام الذي تلاه اغتيل بيار الجميل وفي العام ٢٠٠٧ فقد اللبنانيون عدداً من السياسيين والإعلاميين منهم وليد عيدو وأنطوان غانم وفرانسوا الحاج، تلى هؤلاء وسام عيد وصالح العريضي ووسام الحسن وحسان اللقيس ومحمد شطح. الحقيقة أن وتيرة الاغتيالات في الثماني سنوات التي أعقبت تفجير الحريري تفوقت عدداً على كل الاغتيالات السياسية التي وقعت في لبنان منذ مقتل فؤاد جنبلاط العام ١٩٢١. بمعنى أن عدد من تم اغتيالهم في ثماني سنوات يتفوق على من تم اغتيالهم في 80 عاماً سبقت تفجير الحريري.
العامل المشترك بين الغالب الأعم من هؤلاء الضحايا هو انتقاداتهم العلنية لـ «الحزب الإيراني». هنا يحق لنا أن نتساءل؛ هل دور السعودية أو حتى فرنسا ذات التأثير التاريخي في المنطقة، منافسة «حزب الله» في إسكات المعارضة بالقوة؟ كما أشرت، لا السعودية ولا فرنسا ولا أي دولة أخرى باستثناء نظام حافظ الأسد وابنه بشار، لجأ إلى التصفية الجسدية للخصوم في لبنان. إذاً، فقواعد اللعبة السياسية في لبنان أصبحت تقصي بطبيعتها الدول المسؤولة مهما بلغت إسهاماتها في دعم لبنان واستقرار اقتصاده المتهالك.
هذا المشهد يذكرني بقصة زعيم المافيا الشهير لكي لوتشيانو (Lucky Luciano) الذي يعتبره المؤرخون المختصون المؤسس لأول هيكل تنظيمي للمافيا في نيويورك، ما نتج منه انتقال عمل العصابة إلى النهج المؤسساتي بدلاً من التشتت والأعمال الانفرادية. في زمن الثلاثينات من القرن الماضي، وصل هذا الرجل إلى الزعامة بعد تصفية الخصوم والمنافسين واجتماعه التاريخي مع من رضخ لقيادته من بقية الشركاء في المهنة وأسس ما سمي بعد ذلك بـ «الهيئة العليا» والتي بسببها استمرت المافيا قوية إلى التسعينات الميلادية الماضية. بلغت سطوة وقوة لوتشيانو في نيويورك إلى الحد الذي لا يمكن مثلاً تعيين أي قاضي أو ممثل سياسي أو رئيس شرطة في أي مقاطعة داخل الولاية ما لم تتم الموافقة عليه من هذا الرجل. سيطر على قطاع المقاولات والموانئ والمخدرات والقمار والبغاء بواسطة الابتزاز والتهديد، حتى الإعلام تحول إلى جهاز لحماية العصابة، إذ يشير المؤرخون إلى وجود سبع صحف يومية آنذاك في منطقة نيويورك لكن لا يمكن أي واحدة من هذه الصحف التحدث عن جرائم وابتزاز هذه العصابة خوفاً على أرواحهم.
عند استعراض عدد القتلى السياسيين في لبنان في الفترة التي أشرت لها، وما تبع ذلك من حضور ملفت لـ «حزب الله» في المعترك السياسي اللبناني، فإنه لا يمكن لإحسان الظن أن يجد مكاناً في تفسير هذا المشهد.
هناك نقطة ربما غفل عنها البعض وهي أن السعودية حقيقة لن تخسر شيئاً من تدني تأثيرها هناك. كان للبنان أهمية كبيرة في العقود الماضية كونه يحوي أهم المنابر الإعلامية في الوطن العربي وكان للمملكة اهتمام في هذا الاتجاه. اليوم، لا يملك لبنان هذه المزايا، بل السعودية نفسها هي من يملك ذلك، سواء تحدثنا عن الإعلام المقروء أم المشاهد والمسموع. وهناك حقيقة أخرى مهمة أيضاً وهي أن قوة «حزب الله» مرتبطة بوجود نظام «ولاية الفقيه» في إيران، وكما نعلم فالسعودية تعتبر الدولة الأولى عربياً في التصدي لسياسات إيران العدائية. حدث ذلك في تدخل إيران بالبحرين ويحدث اليوم في اليمن.
بالأمس، قررت الولايات المتحدة الخروج من الاتفاق النووي الموقع مع إيران. بعد ذلك بلحظات، أقلعت المقاتلات الإسرائيلية وللمرة الثامنة خلال أقل من عام لتدمر عدداً من المواقع الإيرانية في سورية. المملكة أيدت قرار الرئيس ترامب بعد دقائق من إعلانه، ومع هذا القرار ومع الخسائر الضخمة التي يعاني منها في اليمن وسورية المعنوية منها والمادية، سيعاود الضعف والهوان لينهش في جسد النظام الإيراني. قراءتي الشخصية أن حكومة إيران ستسقط داخلياً من دون الحاجة إلى أي مواجهة عسكرية.
مرة أخرى ومع التمعن بهذه الصورة الواسعة، ما الجدوى من هزيمة «حزب الله» في حكومة لبنان عندما تحول التوجه إلى هزيمة إيران نفسها؟