Site icon IMLebanon

هل يؤدّي إتفاق مينسك إلى السلام؟

هل هناك من حظوظ لتطبيق اتّفاقية مينسك حول وقف إطلاق النار في شرق أوكرانيا؟ هل أفضَت الوساطة الأوروبية إلى حلّ دائم ؟ أسئلة محَيّرة لا تزال الإجابة عنها مرهونةً بما تحمله الأيام المقبلة.

بدأت التحليلات تؤشّر إلى احتمال أن يكون نصيب اتفاقية مينسك 2، كقرينتها أي مينسك 1، والتي أدّت لاحقاً إلى تصعيد غير مسبوق في الأعمال الحربية، ما أوقعَ نحو 300 قتيل ونحو 1000جريح، فضلاً عن دمار هائل قُدّر بملايين الدولارات، ونزوح كثيف ومعاناة إنسانية لم تشهد لها أوروبا مثيلاً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

اليوم وبعد التوقيع، بدأت تُطرَح جملة أسئلة حول مصير الكيانين السياسيين اللذين أعلنا انفصالهما عن أوكرانيا، أي جمهوريتي دونيتسك الشعبية، ولوغانسك الشعبية، ذلك أنّ الاتفاقية الموقّعة لم تتطرّق في أيّ بند من بنودها الى مستقبلهما السياسي والإداري على الإطلاق، وبالتالي يبقى السؤال عن مصير السيّدين زخارتشينكو وبلونيتسكي الرئيسين المفترضين لكلتا الجمهورتين، كما، ما هو مصير المؤسسات التي شَكّلاها والمراسيم المختلفة التي أصدراها.

على رغم ذلك، فإنّ هناك مسألتين حيويتين ذات طابع إنساني يمكن اعتبارهما نجاحاً مهمّاً، وهما بالِغتا الأهمية والحساسية وتتعلّقان بمصير المنطقة العازلة والإفراج عن كلّ الأسرى والمعتقلين، وعدم تعرّضهم للملاحقة القانونية والقضائية.

يعتقد المراقبون أنّ البند المتعلّق بتعزيز سيطرة الجانب الأوكراني على الحدود مع روسيا الإتحادية تبقى حظوظ تطبيقه دون الصفر، بل هو أمر صعب التحقيق كما نصّت عليه الاتفاقية، ذلك أنّ هذا يعني النهاية المحتّمة للجمهوريتين المنفصلتين، وبالتالي توقّف تدفّق السلاح والمقاتلين والمواد الغذائية والذخيرة وغيرها إليهما.

أمّا الكلام عن إجراء انتخابات حرّة فيبقى أمراً مثيراً للدهشة والاستغراب باعتبار أن لا حرّية لأية معارضة سياسية، إذ إنّ الأحقاد بلغَت مكاناً لا عودة عنه، كما أنّ أيّ إعلان سياسي يطالب بعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبيلَ الإنفصال سيُعيد الأعمال الحربية والصراع العرقي الى سابق عهده، وبالتالي فإنّ الانتخابات المنوي إجراؤها تبقى مجرّد إعلان نوايا أكثر من كونِها قابلةً للتطبيق.

وفيما تتناقض المواقف حول مَن استطاع تحقيق تقدّم أو انتصار ولو جزئي في هذه المفاوضات، سواءٌ الطرف الروسي أو الأوكراني، تجدر الإشارة الى أنّ هذه المفاوضات التي وُصِفَت بالشاقة والمعقّدة أفضَت الى نتائج ليست في مصلحة الأهداف المعلنة والمبطّنة لروسيا الإتحادية، ذلك أنّ هناك شبه إجماع لدى عدد من المحلّلين والمراقبين يؤشّر الى اعتبار أنّ السياسة الروسية المتّبعة تجاه الجارة الأقرب أوكرانيا، والتي تميّزَت بالعدائية ونقض الاتفاقيات،

وأدّت الى ما أدّت اليه من عقوبات قاسية أرخَت بثقلها على الاقتصاد الروسي وانهيار العملة بشكل لم يسبق له مثيل، وأدّت الى ما يمكن تسميته بالتراجع الروسي الأقرب الى الهزيمة، الأمر الذي دفعَ الى محاولة إعادة الإمساك بالورقة من خلال السعي إلى الضغط على الجيش الأوكراني لسحبِه من بلدة «ديفولتسفوفا» الإستراتيجية كنقطةِ انطلاق للسيطرة والإمساك بالموقف مع أوّل خَرق لإطلاق النار،

وإشعار الجيش الأوكراني بالهزيمة المذِلّة، وعودة التفجيرات الى المدن الرئيسية غير الموالية لموسكو كخاركوف المدينة الرئيسية الثانية في البلاد، وعودة الأحقاد الدفينة والتعبئة العرقية، حتى سرَت نكتة في وسط الأوكرانيين تهزأ من بوتين ودعوته الى تظاهرة في موسكو تحت شعار «أنتي ميدان».

وتقول النكتة: لقد تعلّم أهالي موسكو أوّلاً كلمة ميدان الأوكرانية، وثانياً: إلى هذا الحد خاف بوتين حتى إنّه دعا إلى تظاهرة ضد ميدان كييف من غير وجود ميدان لديه».

تؤكّد المصادر على أنّ التراجع التكتيكي الظاهري للمتمرّدين ومن خلفِهم السياسة الروسية هو تراجُع موَقّت وآنيّ، وخصوصاً عن سلسلة من الأهداف التي ظنّت السياسة الخارجية الروسية أنّ في إمكانها تحقيقها، ومن بينها سلخ الأراضي بالقوة أو سياسة الضَمّ على غرار ما حصلَ في القرم، لحاجات اقتصادية روسية، عن طريق دعم مجموعات معينة ناطقة باللغة الروسية ودفعها إلى إعلان استقلالها عن الكيان الأم كعقوبة على سلوك كييف المتطلّعة للانضمام الى الاتحاد الأوروبي والخروج عن الطاعة. هو أمرٌ بمثابة خيانة عظمى من وجهةِ النظر التاريخية الروسية لكلّ العلاقات منذ عهد إمارة كييفسكو – روس، ولا يتماثل ولا يتطابق البتّة مع السياسة الروسية العامة،

وبالتالي فإنّ بشائر هزيمة لهذه السياسة توضّحت معالمُها من خلال اعتبار أنّ كلّ الضخّ العسكري والذخيرة والسلاح والمعارك التي خيضَت والدماء التي سالت، جرت فقط على بضعة كيلومترات ومن أجل السيطرة على تلال صغيرة، سُمّيت بتلال استراتيجية حول دونيتسك وكروماتورسك، ومن ثمّ تمَّ التراجع عن كلّ هذه الأهداف ليصبح جوهر التفاوض يدور حول المسافة الممكنة لإبعاد المدفعية الثقيلة وراجمات الغراد، وهذا ما اعتُبِر من الناحية السياسية فشَلاً ذريعاً لكلّ الأهداف والطموحات الروسية المعلنة وغير المعلنة في شرق أوكرانيا.

في هذا الإطار يتساءل المراقبون: «لأجل ذلك هل كان من الضروري خوض مثل هذه الحرب الضروس وتوتير العلاقات مع دول أوروبا واستجلاب العقوبات، وتحَوّل الرئيس بوتين الى شخصية لا تحظى بالثقة في أوساط مهمّة في أوروبا وأميركا، بعدما كان ينظر إليه كشريك حقيقي؟»

لقد حشر بوتين نفسَه في الزاوية، ذلك أنّ الجولات المكّوكية لكلّ من هولاند وميركل والجهود التي بُذلت، ونحو أربعة عشرة ساعة مفاوضات أفضَت فقط الى هذا الحد الأدنى من التوافق حول وقفِ إطلاق النار وآليّة هشّة معرّضة للاهتزاز، تجعل من بوتين الطرف الأوحد والأحرص على تطبيق بنود الاتفاقية، لأنّه اتّضحَ أوّلاً أنّ أوروبا لن تتراجع وكذلك الولايات المتحدة، عن موقفهما وسياستهما في أوكرانيا، على رغم أنّه من حقّ روسيا الخوف بسبب تعقيدات تاريخية واقتصادية، ذلك أنّ استمرار العقوبات ستكون له تداعياته وآثاره في المدى القريب والمتوسط.

يسود الاعتقاد في أوساط غربية أنّ الاتفاقية قد تبصر النور وقد لا تبصر النور، ذلك أنّ بوتين وأعضاء إدارته أطلقوا أكثر من موقف، وأعلنوا في السابق عن الكثير من الوعود، ولاحقاً جرى التملّص منها دون تبيان الأسباب، إذ إنّها لم تطبّق ولم تنفّذ لاعتبارات تتعلق بالضبابية التي تلفّ السياسة الروسية في شأن الكثير من الملفات الدولية المتوتّرة كالملف السوري والايراني واليمني والأوكراني، وفي مفاوضات كثيرة أجهضَت المكانة والسمعة الروسية بدل من أن تقوّيَها وتعزّزها، وتميّزت بالتوتر والنفس القصير كما في موضوع خط الغاز عبر وسط أوروبا، واتّفاقية الغاز والنفط مع الصين، ولربّما ستُصاب اتفاقيات النوايا أو البنود الأولى للاتفاقيات الدفاعية وإنشاء محطات نوَوية مع مصر بالمصير نفسه.

الرئيس بوتين يحاول أن يلعبَ أدوارَ شخصيات كان لها مكانتُها في التاريخ الروسي، ولم ينجح حتى الآن بأن يتقمّص أيّاً منها، وهو في الوقت نفسه يريد أن يجمع عظمة بطرس الأكبر، وصرامة جوزيف ستالين، ويريد أن يكون القيصر ألكساندر الثاني، ويتقمّص شخصية أمين عام الحزب الشيوعي في العهد السوفياتي، ويتراقص بين نهجَي ستولوبين الإصلاحي وغورباتشوف الودود نحو أوروبا، كلّ هذه المتناقضات تجعل من السياسة الروسية عرضةً للكثير من الاهتزاز.

في كلّ الأحوال، هل هذه الاتّفاقية قابلة للتطبيق؟ يوجد أملٌ بأنّ هناك مساراً قد يؤدّي إلى تقدّمٍ ما، وهذا يرتبط بمدى براعة الرئيس الأوكراني بيترو بوراشينكو في تدوير الزوايا داخل الدوائر الحاكمة في كييف، وتطبيق سياسة سويّة ومتقنة وبارعة تجاه الجار الأكبر، ومرتبطة أكثر بإصرار الديبلوماسية الأوروبية على تحقيق خرق فعليّ في هذا المجال، وأيضاً يرتبط بعقلانية وواقعية الطرف الروسي الذي عليه الإدراك أنّ أوكرانيا أضحَت في مكان آخر، والإقلاع عن عقلية التطويع والتهويد والوصاية.

أمّا في ما يتعلّق بأفق العلاقة بين أوروبا وروسيا بعيداً عن كلّ ما حصل من توتّر وتشنّج، فإنّ أمراً لن يتغيّر، لطالما إنّ الذهنية السائدة في الكرملين تنطلق من اعتبارات أنّ الشراكة قد سقطت، وأنّ الغرب وأوروبا يعزّزان منطق الحرب الباردة وتقاسم الدول،

وبالتالي ستبقى هذه العلاقات تترنّح بين الاستعداء وتحقيق الحدّ الأدنى من العلاقات والطموحات بما يؤدّي إلى التخفيف من آثار التوتّر الكبير الذي بلغَته هذه العلاقات، كي لا تنشأ بؤرُ توتّر أخرى تطيح لاحقاً بكلّ إفرازات ما أنتجَته مرحلة ما بعد سقوط الاتّحاد السوفياتي ومحاولة تغيير الخرائط والحدود والجغرافيا، كما فعلت روسيا بضَمّ القرم، وكما قد تقدِم عليه غيرها من الدول تحت شعار استعادة الحق التاريخي.