فيما كانَ سفير روسيا في بيروت ألكسندر زاسبيكين يستقبل وفودَ المعزّين برئيس الوزراء الروسي السابق يفغيني بريماكوف، وفيما كان الرئيس فلاديمير بوتين يعلن مبادرته لتشكيل تحالف رباعي ضدّ الإرهاب، كانت إحدى الشخصيات السياسية المُعَزّية تطرَح مع زاسبيكين اقتراحاً يَقضي بأن تتولّى موسكو دوراً مهمّاً في ردمِ الفجوات بين دوَل المنطقة بما يُمكّنُها من وضعِ استراتيجيةٍ لمواجهة الإرهاب على مستوى المنطقة بأسرِها.
قالت هذه الشخصية السياسية المخضرمة لزاسبيكين أيضاً، «إنّ روسيا تكاد تكون الدولة الوحيدة القادرة على التواصل مع جميع الأطراف المعنيين بمكافحة الإرهاب في المنطقة، فهي حليفة دمشق وصديقة الرياض وعلى علاقة طيّبة بمصر وحليفة قوية لطهران وليست بعيدة عن أنقرة وقادرة على التواصل مع أطراف النزاع في اليمن.
وهذا كلّه يؤهّلها لأن تدعوَ إلى اجتماع يضمّ كلّاً مِن هذه الأطراف بعد التشاور مع واشنطن، بالطبع، والتي باتت تدرك مع حلفائها الأوروبيين مخاطرَ تمدّدِ الإرهاب إلى بلادها». وأضافت: «إنّ كلّ دوَل المنطقة تواجِه مأزقاً، وقد باتَت تتلمّس بنحوٍ مباشَر مخاطرَ هذا الإرهاب، وبالتالي باتت مهيَّأة من الناحية الموضوعية لإيجاد حلّ يُخرج الجميع من مأزقِهم».
إرتاحَ السفير الروسي إلى هذا الاقتراح، خصوصاً أنّه يأتي من شخصية مطّلعة بدقّة على مجمَل التطورات في المنطقة. وحين خرجَت هذه الشخصية من مقرّ السفارة الروسية بعد التعزية علمَت بمبادرة بوتين بالدعوة إلى تشكيل التحالف الرباعي لمكافحة الإرهاب (دمشق، الرياض، عمان، أنقرة). ولاحظت أنّ هذه المبادرة جاءَت بعد زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري لموسكو وبعد زيارة وليّ وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان المهمّة للعاصمة الروسية خلال وجود الوفد السوري برئاسة وزير الخارجية وليد المعلّم هناك، بما يشير إلى جدّية هذه المبادرة، حيث إنّها لم تأتِ من فراغ،
بل جاءَت إثرَ تفجيرات الكويت وتونس التي حصلت بعدها أحداث بني زويد في مصر التي استهدف فيها تنظيم «داعش» مجموعةَ مكامن للجيش المصريّ وأدّت إلى استشهاد وجَرحِ العشرات من ضبّاط جنود القوات المسلّحة المصرية وجنودها، إضافةً إلى استيلاء مسلّحي داعش على مدينة بني زويد لساعات، ما دفعَ رئيس الوزراء المصري إلى الإعلان أنّ بلاده تخوض حرباً ضدّ الإرهاب.
كذلك جاءت مبادرة بوتين قبَيلَ استضافة روسيا بينَ 8 و10 تمّوز الحالي قمَّةَ دوَل مجموعة الـ«بريكس» التي ستحضر التطوّرات الإقليمية على طاولتها، ولا سيّما منها الملفّ النووي المزمَع عقدُه بين طهران ودوَل مجموعة 5+1. كذلك ستُرَكّز هذه القمّة على خلقِ استراتيجيّة مُشترَكة دعماً للسلام والاستقرار العالميَّين، والمساهمة في إقامة نظام دوليّ أكثر إنصافاً.
فالحربُ على الإرهاب أصبحَت سياسةً رسمية معلنة في عدد من العواصم العربية، ما يشير إلى أنّ حلفاً فعليّاً يمكن أن ينشَأ بين كلّ هذه العواصم يتجاوز كلّ ما بينها من عداوات وخصومات، فحينَ تصبح الحرب على الأرهاب أولوية تتراجَع كلّ الحروب الأُخرى والنزاعات المتّصلة بها.
وفي هذا السياق تذكّرت الشخصية السياسية المخضرمة كيف أنّ خطر النازيّة والفاشية الذي تفشّى في أوائل الأربعينات من القرن الماضي قد أدّى إلى نشوء تحالفٍ بين دوَلٍ كان يُعتبَر بعضُها عدوّاً للبعض الآخر ولا مجالَ للتفاهم في ما بينها. فموسكو الشيوعية وجدَت نفسَها في خندق واحد مع الغرب الرأسمالي بعدما كان هذا الغرب يريد إطاحةَ نظامِها الشيوعي، وكانت الفكرة الشيوعية تطمحُ إلى إسقاط كلّ الأنظمة الرأسمالية.
حلفُ الضرورة يومَها بين هذه العواصم نجحَ في الانتصار على النازية الهتلرية وعلى الفاشية الموسولينية، وفتحَ البابَ أمام عالم جديد ليقومَ على قطبين رئيسيين اتّفَقا بينهما على أن لا يتعدّى النزاعُ الحربَ الباردة بينهما، وإنْ كان ذلك لا يمنع نشوءَ بؤرٍ ساخنة في هذه المنطقة أو تلك مِن العالم.
على أنّ مصر التي تعاني من شرور هذا التطرّف الإرهابي الذي وصلت شظاياه إلى القاهرة نفسِها من خلال اغتيال النائب العام المستشار هشام بركات والذي يعتبره كثيرون، بحكم موقعِه، الشخصية الثانية في مصر بعد رئيس الجمهورية عبد الفتّاح السيسي، تستطيع أيضاً أن تلعب دوراً مهمّاً في تسهيل نشوء هذا الائتلاف الواسع ضدّ الإرهاب، خصوصاً أنّها على علاقة جيّدة بالمملكة العربية السعودية وبقيّة دوَل الخليج، وأنّ خطوط التواصل لم تنقطع بين مسؤوليها العسكريين والأمنيين وبين القيادة السورية، وهو تواصُلٌ انعكسَ في إبداء الأمين العام لجامعة الدوَل العربية نبيل العربي استعدادَه للاجتماع بوزير الخارجية السوري وليد المعلّم في أيّ وقتٍ يريد.
فهل تؤدّي هذه المبادرات إلى تغيير استراتيجي كبير في المنطقة ينعكس على كلّ مناطق التوَتّر بدءاً مِن سوريا والعراق وصولاً إلى ليبيا واليمن ومصر، بالإضافة إلى انعكاساته الإيجابية على لبنان نفسه؟
لقد لخّصَ الوزير السابق عبد الرحيم مراد هذه الرؤية حين دعا إلى تفاهم بين عواصم الخلافات الإسلامية التاريخية، بدءاً مِن عاصمة الخلافة الراشدية في مكّة، إلى عاصمة الخلافة الأموية في دمشق، إلى عاصمة الخلافة العباسية في بغداد، إلى عاصمة الخلافة الفاطمية في مصر، من دون أن يستبعدَ هذا المنطق طبعاً عاصمة الخلافة العثمانية في اسطنبول، وعاصمة الدولة البويهية في طهران.
وفي التفاصيل، كما تشير هذه الشخصية السياسية المخضرمة، كثيرٌ مِن المؤشّرات التي تبشّر بإمكان قيام هذا التحالف بدءاً مِن توصّل طهران والدوَل الستّ إلى الاتفاق النووي، وكذلك إلى الهدنة الإنسانية الجديدة في اليمن، مروراً بفشَل «عاصفة الجنوب» على درعا السورية، وهو فشلٌ يردّ البعض حصولَه إلى خلاف بين فصائل المسلّحين السوريين التي يدعمها الأردن وبين المستقلّين عنه.
وهنا تُذكّر الشخصية المخضرمة برؤية قديمة مفادُها أنّ الحلَّ في دوَل المنطقة لا يُستكمَل إلّا عبر تفاهمات دولية، فإقليمية، فعربية، فمحَلّية، وهو ما عرِفَ بنظرية «الطبقات الأربع» التي تشَكّل عمارةَ الأمن والاستقرار في المنطقة.