حملت كلمة السيّد حسن نصر الله في ذكرى انتهاء حرب تموز كثيراً من المعاني والرسائل، وقد يكون أبلغها دعوته إلى قيام الدولة التي تجسّد الشراكة الحقيقية، ورفضه مقولة الطائفة القائدة والحزب القائد.
قال السيّد نصرالله «يجب أن نقتنع جميعاً، وأنا ابن الحركة الاسلامية وابن الحزب الإسلامي، بقيام الدولة التي يشارك فيها الجميع، ويجب أن ينتهي التفكير بعقلية أنّ هناك طائفة قائدة في لبنان، أو عقلية الحزب أو التنظيم أو التيار القائد للدولة. كلنا متساوون في الإحساس بالخوف والغبن، وهذه الدولة هي الضمانة وهي الحلّ، لا التقسيم ولا الفدرالية، ولكن لا يمكن أن تكون كذلك إلّا إذا كانت دولة شراكة حقيقية لإخراج لبنان من كل أزماته».
يشكّل كلام أمين عام «حزب الله» المحدد أعلاه تطوراً في النظرة السياسية للحزب حيال لبنان ببعده الميثاقي، كما يشكّل تقاطعاً مع فريق ١٤ آذار على مشروع «العبور إلى الدولة»، ويشكّل أيضاً، ربما، تهيئة لبيئته نحو مرحلة سياسية جديدة تتزامن وتترافق مع المرحلة التي تلت الاتفاق النووي، ولكن المشكلة في هذا الكلام أن لا علاقة له بالواقع، حيث أنّ الأقوال تتناقض كلياً مع الأفعال.
فالتوصيف الذي ذهب إليه نصرالله في هذا المجال دقيق جداً، ولكن كيف يمكن أن يستوي الحديث عن رفض «عقلية الحزب القائد»، والدعوة إلى «الشراكة الحقيقية بين المكوّنات اللبنانية»، في ظل مصادرة «حزب الله» للقرار الاستراتيجي للدولة المتصِل بالحرب، والذي تطور في السنوات الأخيرة ليشمل الحدود مع سوريا في موازاة الحدود مع إسرائيل؟
وبمعزل عن عدم صحة إسقاط الواقع الحالي على ما كان عليه الوضع إبّان الجمهورية الأولى، لأنّ المارونية السياسية كانت «قائدة» الفكرة اللبنانية وليس مشروعاً مسيحياً، وبمعزل عن انّ المخاوف المسيحية لم تكن بسبب وجودهم وسط بحر إسلامي كما قال السيد نصرالله أيضاً، إنما بفِعل عدم إيمان المسلمين اللبنانيين بالفكرة اللبنانية القائمة على التحييد ونهائية الكيان اللبناني، وذلك ربطاً بأولويتهم القومية على اللبنانية، وبمعزل عن أنّ الامتيازات لم تكن إطلاقاً بسبب تفوّقهم، لأنّ كل الطوائف فيها الخير والبركة، بل لضمان الفكرة اللبنانية، ولكن بمعزل عن كل ذلك لا يمكن تجاهل أنّ «حزب الله» اليوم هو الحزب القائد في لبنان على غرار حزب البعث في سوريا والحرس السوري في إيران.
وقد يكون من الأنسَب للسيد نصرالله لو لم يأت على ذِكر «الطائفة القائدة» و»الحزب القائد» وذهبَ مباشرة للدعوة إلى الحوار مع العماد عون في ملفّي الرئاسة والحكومة، لأنّ كلامه لا يعكس حقيقة الواقع، بل يسلّط الضوء على دور «حزب الله» غير المسبوق في التاريخ اللبناني، ويشكّل إدانة مباشرة للحزب الذي يؤدي دور «الحزب القائد» وحبّة مسك.
فهو حزب مسلّح ويرفض تسليم سلاحه، ويتمسّك بهذا السلاح إن بحجّة توازن الرعب مع إسرائيل، أو الدفاع عن العمق اللبناني في مواجهة الأصوليين، ويسمح لنفسه باستخدام سلاحه في الداخل وقت الحاجة وبفتح أيّ جبهة عندما يُقدّر ذلك بمعزل عن القوى الأخرى في لبنان، ويمنع الانتخابات الرئاسية إلّا بشروطه، لا بشروط الدستور اللبناني، ويحول دون تأليف الحكومات إلّا بعد حصوله على حق الفيتو، ويمنع تحييد لبنان بإصراره على جعله في صلب محور الممانعة…
وتِبعاً لِما تقدّم، هل يمكن توصيف دور «حزب الله» بأقلّ من «الحزب القائد»؟ ومن ثم عن أيّ شراكة يتحدث السيّد نصرالله عندما يتفرّد حزبه في قرار الحرب ويتمسّك بسلاحه في موازاة السلاح الشرعي؟ وهل المقصود بالشراكة كل ما هو دون القضايا الأساسية والمصيرية والجوهرية؟ وهل تعني الشراكة أن تتمثّل كل المكوّنات في السلطة التنفيذية، أم أنّ القرار الفعلي للدولة يجب أن يكون من مسؤولية تلك المكونات؟
فالشراكة تبدأ من الأمور المصيرية المتصلة بدور لبنان، وقد أكد السيّد نصرالله، وهو مُصيب، بأنه «عندما نكون جميعاً موجودين بمؤسسات الدولة ومؤسسات القرار نطمئن جميعاً بأنه لا يتآمر أحد على أحد»، ولكنّ لبّ المشكلة يكمن في هذا الجانب تحديداً وهو أنّ «حزب الله» يتفرّد باتخاذ القرارات، وليس هناك من مؤسسات قرار ولا مَن يحزنون.
وإذا كان «حزب الله» يلعب دور «الحزب القائد» بامتياز منذ الخروج السوري من لبنان في العام 2005، هذا الجيش الذي لعب بدوره هذه الوظيفة منذ العام 1990، فإنّ تجاهُل السيد نصرالله لهذا الواقع لا يمكن أن يكون قد حصل سهواً، بل انّ إصراره على رفض مبدأ «الحزب القائد» لا يمكن تفسيره إلّا بكونه ينمّ عن رؤيته ونظرته للنظام السياسي الجديد للبنان الذي مهّد له عبر هذا الخطاب والقائم على مبدأ التمييز حتى حدود الفصل بين القضايا المصيرية والوجودية التي تتولى «المقاومة» بديهياً إدارتها، وبين الأمور الإدارية والتنظيمية والسلطوية الشكلية التي تتطلب «شراكة حقيقية» من دون وجود «الحزب القائد».
فدور «حزب الله» الهجومي والدفاعي، بمهذا المعنى، غير قابل للنقاش، ولا يجوز تصنيفه بـ»الحزب القائد»، لأنه يقوم بمهمة سامية نيابة عن كل اللبنانيين، فيما هو ليس بهذا الوارد على مستوى إدارة الشؤون الحياتية التي تتطلّب شراكة فعلية، مع تدخّله فقط «لتصويب الاتجاه عندما تدعو الحاجة».