طلبُ النزول إلى الشارع ليس للتسلية، ولا لـ”فشّ الخلق”، ولا هو مسألة مزاجية، إنما دفاعاً عن قضية تجمع الغالبية على تأييدها.
في الماضي نزل اللبنانيون إلى الشارع للتخلّص من الانتداب الفرنسي والحصول على الاستقلال. ثم نزلوا إلى الشارع تخلصاً من الوصاية السورية ولاستعادة السيادة والحرية والاستقلال. أما طلب العماد ميشال عون النزول إلى الشارع اليوم فمن أجل أي قضية لها شعبيتها أو شبه إجماع عليها؟ أمِنْ أجل أن يكون فلان رئيساً للجمهوريّة أو “فليتان”؟ أمِنْ أجل تعيين هذا أو ذاك قائداً للجيش، وكلها قضايا لا تهمّ الناس لأن همومهم في مكان آخر؟ أمِنْ أجل أزمة النفايات وأزمة الكهرباء والكل مسؤول عنهما بمن فيهم الوزراء العونيون؟ أليس النزول إلى مجلس النواب يختصر كل الطرق، عوض سلوك طريق طويلة تعرف بدايتها ولا أحد يعرف نهايتها؟
لذلك على العماد عون قبل أن يدعو للنزول إلى الشارع أن يحدّد القضية المطلوب النزول من أجلها وإلا كان النزول محبطاً له ومهيناً لمكانته.
لقد ظنّ العماد عون أن رفع شعار “استعادة حقوق المسيحيين” له شعبيته، ولكن تبيّن أن غالبية القيادات المسيحية لم “تقبض” هذا الشعار فكان النزول إلى الشارع من أجله هزيلاً وعاجزاً عن استعادة أي حق من هذه الحقوق، لا بل قد يذهب بالبقية الباقية منها إذا ظلت ترفع شعارات غامضة. فشعار “استعادة حقوق المسيحيّين” يحتاج إلى بحث فيه مع القيادات المسيحية لمعرفة من أخذ هذه الحقوق كي يصار إلى استعادتها، وما هي هذه الحقوق. أهي تلك التي أخذت منهم في مؤتمر الطائف فجعلت رئيس الجمهوريّة يملك ولا يحكم؟ أهي صلاحيات لم يكن في استطاعة رئيس الجمهوريّة استخدامها لئلا تثير أزمات سياسية ومذهبية وتهدّد الوحدة الوطنية والعيش المشترك والسلم الأهلي؟ أهي الحقوق التي تكرّست للمسيحيين في ذاك المؤتمر وأهمها المناصفة التي لا تثبّت في الشارع بل بقانون جديد للانتخابات وبالطرق الشرعية؟
الواقع ليس المهم الحصول على الاستقلال إنما المهم المحافظة عليه، وهذه المحافظة لا تتحقق إلا بوحدة الموقف المسيحي والمسلم منها. والمحافظة على الحقوق تغني عن المطالبة باستعادتها لأن ثمة من يكون مسؤولاً عن إضاعتها. فإذا كانت المناصفة بين المسلمين والمسيحيين التي نص عليها اتفاق الطائف هي من الحقوق التي يجب استعادتها، فما على القيادات المسيحية سوى الاتفاق أولاً على كيفية تثبيتها وترجمتها وليس على مزيد من التفريط بها بفتح الأبواب لتعديل اتفاق الطائف ظناً منهم أن هذا التعديل سيزيد حقوقهم ولا ينقصها. وإذا كانت المناصفة تتحقق فعلياً وعملياً بوضع قانون جديد للانتخابات النيابية فأين هو القانون الذي اتفق عليه المسيحيون قبل المسلمين كي يحق لهم النزول إلى الشارع دفاعاً عن قانون منصف لم يتم الاتفاق عليه بعد وتوجيه الاحتجاج ضد من يعارضه.
إن اتفاق الطائف لا يحتاج إلى تعديل جوهري وأساسي إنما يحتاج إلى تحسين وتحصين كي يصبح قابلاً للتطبيق الصحيح، وهو ما يجب العمل من أجله ليس في الشارع بل في مواقع الشرعية. وليتذكر الجميع أن لعبة الشارع ليست ترفاً وتسلية بل هي لعبة خطرة، خصوصاً بالنسبة إلى المسيحيين الذين قلّ عددهم وقلّ رجالهم… حتى أنهم تفرّقوا على قلتهم ونسوا أو تناسوا أن في الوحدة قوة. والمسيحيون لم يفقدوا حقوقاً لهم كي يطالبوا باستعادتها، إنما لم يعرفوا كيف يحافظون على الحقوق التي حصلوا عليها بتفرقهم وتشرذمهم وتشتتهم وانحياز بعضهم إلى هذا المحور وبعضهم إلى محور آخر، ولم يجعلوا تحييد لبنان أساس الخلاص لهم وله. والمحافظة على الحقوق تكون باتفاقهم على انتخاب رئيس للجمهوريّة وعلى وضع قانون عادل ومنصف ومتوازن للانتخابات يحصّن المناصفة ويترجمها واقعاً على الأرض، وبخوض الانتخابات في لوائح واحدة موحدة اذا واجهتهم لوائح واحدة موحدة من الطرف الآخر تأسيساً للبنان جديد قوي وشفاف ومتماسك، وليس الذهاب إلى مؤتمر تأسيسي لا أساس له… بل إلى مؤتمر ينظر في تعديلات تتناول بعض المواد في دستور الطائف تفسيراً أو إيضاحاً لها كي لا يظل تطبيقها موضوع خلاف واجتهادات. وكان الرئيس السابق ميشال سليمان قد أتى على ذكر بعضها في كلمة له لمناسبة انتهاء ولايته، وتولت لجنة من الحقوقيين والخبراء الدستوريين وضع مقترحات لتعديل الدستور علها تسد الثغرات فيه في ضوء تجربة السنوات المنصرمة، وهي ثغرات حملت النظام السياسي بذور إعاقته وتعطيله. وهذه التعديلات أصبحت لدى الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وما على القيادات سوى تحريكها عند تشكيل أول حكومة بعد انتخاب رئيس للجمهوريّة دونما حاجة للنزول إلى الشارع بل إلى مجلس النواب.