IMLebanon

هل بدأ البطريرك العدّ العكسي لقلب الطاولة على الجميع؟

يعيش البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي ولفيف من المطارنة القريبين منه، هواجسَ وطنيّة مسيحيّة مصيريّة، في مقدّمها الاستحقاق الرئاسي الذي يتعرَّض لخطة تعطيل ممنهَجة، ما يُهدِّد المؤسسات الدستورية والدولة بالفراغ، تمهيداً للوصول إلى المرحلة الأخيرة التي تقضي بعقد مؤتمر تأسيسي، تُطرَح فيه المثالثة، ما سيشكّل ضرباً للميثاق الذي بَذل المسيحيّون عموماً والموارنة خصوصاً، الغالي والرخيص للحفاظ عليه.

أمام هذه المِحنة، فتحَ البطريرك الراعي ومعاونوه من المطارنة كتابَ البطريرك الياس الحويّك الذي كان عرّابَ نشأة دولة لبنان الكبير والاستقلال. استَحضروه وحاوروه في زمنٍ يَشهد فيه هذا «اللبنان» تغيُّرات جذريّة وانحطاطات شتّى تمسُّ بقدسيّة الأرض والوطن.

يبدو أنّ أصداء كلمات الحويّك لا تزال تتردّد في أروقة بكركي معلنةً الاستنفار العام في صفوف المطارنة: «يا بنيَّ، لا تضيِّعوا إرثَ الأجداد الثمين واستحقاقَ النسّاك القدّيسين ودمَ الشهداء الكريم». ويبدو أنّ هذه الكلمات – الوصايا، تنتج مفاعيلها صرخات متتالية من راعٍ ثائر لا فرقَ إذا «بقّ البحصة» من لبنان أو أوستراليا، فهو يحمل طاقةً هائلة، مشحونة بتاريخ حافل من مواقف البطاركة العظماء الذين مرّوا في بكركي.

بقّ البحصة

الأحزاب اللبنانية الممثّلة للشارع المسيحي ورؤساؤها ومناصروها، على تناقضاتهم، يتتّبعون مواقف البطريرك الأخيرة وتداعياتها بما يشبه «حبس الأنفاس»، وكُثر بدأوا يتساءَلون: هل بدأ العدّ العكسي لديه لقلبِ الطاولة على الجميع؟

ربّما أرضى كلامُ الراعي الأخير قوى «14 آذار»، لأنّهم لم يُقصّروا يوماً، منذ دعوة الرئيس نبيه برّي إلى جلسة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، في القيام بواجبهم والنزول إلى المجلس النيابي، لكنّهم يتساءلون هل يكفي «بقّ البحصة» ومن دون تسمية المعطّلين بأسمائهم بعيداً من التعميم، وبالتالي متى سيستعمل العصا التي أهداها إليه أحد المغتربين ضدّ المتآمرين الذين يرتكبون جريمةً في حق الوطن؟

يعتبر رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس مطر «أنّ هذا الانتقاد غير صحيح، بل سطحيّ، فبكركي تقول كلمتها، وعلى الآخرين فهم ما وراء الكلمات. وعندما نقول إنّ النواب لا يقومون بالأعمال المنوطة بهم، فذلك لا يعني أنّ الـ 128 نائباً لا يقومون بواجبهم. نحن نعرف أنّ ثلثَ النواب، وربّما أكثر، لا ينزلون إلى المجلس بغية انتخاب رئيس».

ويقول لـ«الجمهورية»: «لا أحد أكثر من البطريرك يريد انتخاب رئيس، إذ إنّ موقفه واضح: لا تمسّوا بالدستور، ولا مصلحة للبنان في غياب الرئيس. لكنّنا نشعر بعد مرور أكثر من ستة أشهر بوجود نيّات مبيّتة هدفُها الوصول إلى الفراغ على كلّ الصُعد».

لا غموض في كلامه

يعرف الراعي ومطارنته جيّداً هوية المعطّلين، فيؤكّد مطر «أنّ الأمور معروفة ولا أسرار. جميع اللبنانيين يعرفونهم، فماذا ينفع الكلام في الإعلام؟ نحن نحاول معالجة الأمور، والبطريرك الراعي لا يوفّر أيّ فرصة للدفع بالإستحقاق إلى الأمام، وهو لهذه الغاية تكلّم مع الزعماء اللبنانيين، واجتمعَ مع رؤساء الدول الكبرى والسفراء، وكلّفنا بمهمّات في هذا المجال. كلّ ما نريده هو انتخاب رئيس».

على رغم غضَب الراعي، إلّا أنّه تحاشى الاصطدام بقوى «8 آذار» و«التيار الوطني الحر»، ولا يزال يتجنّب قطعَ «شعرة معاوية» معها، وفي هذا الإطار يقول مطر: «لا غموض في كلام الراعي، لكنّنا لا نُحاكم أحداً، إنّما نحاول توعية الرأي العام ليضغط على النواب».

لم ينسَ اللبنانيون أنّ سيّد بكركي تحدّث مرّةً عن استطلاعات للرأي في شأن الأسماء التي يريدها الشعب اللبناني في موقع الرئاسة، وقد توعّدَ أكثر من مرّة بأنّه سيُشهرها في وجه جميع نوّاب الأمّة ليتحمّلوا مسؤولياتهم أمام الناس، لكنّ الكلام عن هذه الاستطلاعات ربّما كان من باب الضغوط التي مارسَها الراعي على المسؤولين المسيحيين والنوّاب، بدليل ما قاله المطران مطر: «لا استطلاعات للرأي في لبنان يمكن الاعتماد عليها، سيّدنا الراعي قال أنا سأستعين باستطلاعات للرأي، لكن أين صدقيّتها. هناك أسماء باتت معروفة، لكنّ البطريرك لا يؤيّد أحداً ولا يعارض أحداً».

إذا صَفَت النيّات لا تحتاج بكركي إلى استطلاعات للرأي، فالمسألة أبسط من ذلك، ويقول رئيس مطارنة بيروت للموارنة: «فلنفرض أنّ هناك عشرة مرشّحين، ونزل النوّاب لانتخاب رئيس، فالمرشّح الذي لم يحظَ بأصوات كافية لن يستمرّ، ولا بدّ من أن يفوز في النهاية من يحظى بأكبر نسبة من الأصوات. وهذا يحصل في كلّ الدول الديموقراطيّة.

المشكلة أنّهم يُحجِمون عن النزول إلى المجلس، وهذا ما لم يحصل سابقاً! علينا التفكير لاحقاً بتعديل الدستور لجهة تأكيد إلزاميّة الحضور إلى المجلس النيابي لانتخاب الرئيس، أمّا النائب الذي يغيب فلا يعود يُحسَب في النصاب».

لا مشكلة مع عون ولكن

إسم العماد ميشال عون يتردَّد كثيراً في الصرح البطريركي، إلّا أنّه لا يتردَّد إلزاميّاً كمرشّح طبيعي لرئاسة الجمهوريّة فحسب، إنّما كمساهم أساسيّ في التعطيل، إذ لا يزال يعتبر نفسَه الأكثر تمثيلاً في الشارع المسيحي، وبالتالي يدعو إلى الاتفاق عليه ليكونَ المرشّح الوفاقي بإجماع كلّ الكتَل النيابية الكبرى.

وهنا يلفت مطر إلى «أنّ بكركي، وتحديداً البطريرك الراعي ليس لديه أيّ «فيتو» على إسم عون، والرئيس سعد الحريري أعلنَ مرّات عدّة أنّه لا يُمانع. لكن لا يمكن للعماد عون أن يُنتخَب ما لم ينزل إلى المجلس النيابي!».

ويذكّر مطر أنّه عندما انتهى عهد الرئيس كميل شمعون واتّفق الجميع على العماد فؤاد شهاب، أعلن عميد «الكتلة الوطنيّة» ريمون إدّه ترشيحه، وهو يعرف أن لا حظوظ لديه ليُنتخَب رئيساً، وقد نال سبعة أصوات. وهكذا حافظ على اللعبة الديموقراطية».

ويضيف: «هناك فرقٌ بين الانتخاب والاستفتاء. في العالم العربي يُجرون استفتاءً وينال المرشّح نسبة 99 في المئة. نحن في لبنان، لسنا معتادين على هذا الأمر، ونريد الحفاظ على الديموقراطيّة.

فإذا توافقَت الكتل النيابية والمسيحية على العماد عون ونال 70 أو 80 صوتاً، ما المانع إذا حصلَ مرشّح آخر على 20 صوتاً؟ لا يمكنك أن تمنعَ الاختيار، نحن نعيش في بلد حرّ يوفّر لنا إمكانية الاختيار. فهناك آليّة لا نحترمها، أي أن يجتمع المجلس النيابي حكماً وينتخب رئيساً فوراً لا أكثر ولا أقلّ».

موقفان متباينان

لم تتوقّف مساعي بكركي لإتمام الاستحقاق الرئاسي، إلّا أنّ كلّ المبادرات والآليات كان مصيرها الفشل في ظلّ الانقسام العمودي الذي يُخيّم على التيارات والأحزاب السياسية المسيحيّة. ويُبدي مطر استغرابَه وامتعاضَه، ليس بسبب الانقسام، إنّما بسبب عدم الامتثال لما اتُّفِق عليه في بكركي أساساً قبل الاستحقاق، ويقول: «لقد اتّفق الأقطاب الأربعة في حضور البطريرك على آليّة معيّنة لمواجهة الاستحقاق، لكن عندما دقّت ساعة الصفر، عادوا واختلفوا مجدّداً، وتظهّرَ موقفان متباينان: يتمثّل الأوّل بضرورة وجود رئيس ماروني قويّ يتعاطى مع الأمور من موقع ثقة وقوّة، كما يحصل عند الشيعة والسُنّة والدروز؟

أمّا الموقف الثاني فيقول إنّنا سهرنا طوال مئة عام على أن يكون لنا دستور ونظام مصانان، بدليل أنّنا خلال أيام الحرب كنّا نحرص على إجراء الانتخابات الرئاسيّة في موعدها، وإن كانت تتمّ تحت السلاح، وبالتالي حافظنا على الشرعيّة. في الحقيقة، كِلا الموقفين يتضمّن جزءاً من الصوابيّة، لكن للأسف لم نصل حتى اليوم إلى حلّ».

ربّما تدفع الفضوليّة لدى بعض اللبنانيين إلى التساؤل عن مفهوم الرئيس القويّ بالنسبة إلى بكركي. فالبعض يَعتبر رئيساً قوياً مَن يحظى بتمثيل شعبي مسيحي، والبعض الآخر لا يجد الرئيسَ قويّاً ما لم يكن مدعوماً من كلّ الكتَل النيابية الممثّلة لكلّ الطوائف والأطياف اللبنانية.

أمّا مطر فيربط الرئيس القويّ بالإجماع الذي يناله، موضحاً: «الشيعة لديهم رئيس قويّ لمجلس النواب بفعل وحدتهم حوله، والسُنّة كذلك في رئاسة الحكومة، أمّا نحن الموارنة فنتخبّط في انقسام، لذلك لماذا لا يكون هناك مرشّحان قويّان أو أربعة ينزلون إلى المجلس النيابي ويتنافسون. هذا ما يريده البطريرك وهذا ما يقوله».

سلطة معنويّة تغييرية

بعد رحلة البطريرك إلى أوستراليا، ورفعِ العصا وبقّ البحصة، تتّجه الأنظار إلى بكركي مجدّداً، ويتساءل الجميع ما هي الأوراق التي يمكن أن يستخدمها الراعي بعد لوقفِ مسيرة الانحدار نحو الفراغ؟ ومتى يقلب الطاولة على رؤوس الجميع؟

يجيب مطر: «لا يجوز أن نسترسل في الأوهام. فسلطة البطريرك الماروني معنويّة، لكنّ هذا لا يعني أنّها ليست ذات أهمّية، بل هي بالغة الأهمّية، فهي سلطة معنويّة تغييرية، لأنّه لولا جهود البطريرك الياس الحويّك لما وُجِدَ هذا «اللبنان»، وقد اعتَبر هذا الرجل العظيم أنّ لبنان أمانة في أعناقنا، خصوصاً لبنان المستقلّ والعيش المشترك، لذا من البديهي أن يتدخّل البطريرك الراعي وجميع الأساقفة لأننا نعتبره إرثاً وثمرة جهاد أجدادنا على مدى مئات الأعوام».

من هنا لم تعُد مستغرَبةً صرخات الغضب المتتالية التي يطلقها البطريرك الماروني، سواءٌ من لبنان أو خلال جولاته الخارجيّة، خصوصاً أنّ موقع رئيس الجمهورية الذي يقرّ به الدستور للمسيحيين، وتحديداً الموارنة، ليس علامة فارقة للبنان فحسب إنّما نبراس وعلم للمنطقة بأسرها، ولمسيحيّي الشرق الذين يعيشون موجةً جديدة من الاضطهاد المرير.