الحراك المدني كحاجة للخروج من المرحلة الانتقالية
هل تمهّد السلطة لحكم العسكر.. عبر الفراغ والفوضى؟
ليست المرة الأولى التي تستجمع فيها السلطة قواها لمواجهة الحراك المدني. صار الأمر مملاً: قمع غير مبرر يليه اعتقالات بالجملة، قبل أن يأتي دور «الجوقة السياسية ـ الاقتصادية ـ الدينية» نفسها، فتحمّل المسؤولية إلى الضحية تاركة الجلاد. قيل الكثير عن الشغب وتخريب الأملاك العامة والخاصة، لكن أحداً لم يكلف نفسه عناء الإشارة إلى العنف المفرط الذي استخدمته قوى الامن تجاه المتظاهرين؛ هؤلاء الذين كان المطلوب منهم أن يبادلوا مئات القنابل وأطنان المياه المصوبة إلى رؤوسهم بالورود.. حتى لا يُتهموا بالغوغائية!
الأسلوب قديم واستخدم مراراً منذ ثلاثة أشهر إلى اليوم. فالسلطة منذ انطلاق التظاهرات التي بدأت على خلفية أزمة النفايات، لم تعدم طريقة إلا واستعملتها في سبيل تشويه صورة الحراك. كل ذلك «ليس خطيراً»، على حد قول أحد قيادات الحراك، الذي يثق أن كل محاولات السلطة لن تنجح ما دام هنالك متظاهر واحد، في الشارع، يقول لها أنت كاذبة وسارقة.
«الخطر الفعلي قد يكون في تمهيد السلطة لأمر ما»، بحسب القيادي نفسه. الإشارات لا تطمئن. مهما قيل عن عجز السلطة، إلا أن ما تقترفه يومياً من إمعان في تثبيت شلل المؤسسات، يوحي أن الأمور ليست بريئة. مسألة ترقية العميد شامل روكز هي مثال بسيط على ذلك. كان من السهل لمن يريد حقاً أن ينقذ السلطة التنفيذية الموافقة على تسوية ليست مكلفة في السياسة. فتلك التسوية الترقيعية كانت كفيلة بحفظ ماء وجه السلطة بكل أجنحتها وإعادة إنعاش المؤسسات.. إلا أن الأولوية بقيت للإمعان في تثبيت الشلل. لماذا؟ على السلطة أن تجيب. لكن بعض الحراك يفترض أن الشلل المقصود، مقترناً بتصوير التظاهرات كحالات فوضوية وعنفية، يعزز افتراض البعض أن ما يحدث إنما يهدف إلى مراكمة العجز، وصولاً إلى تهيئة ظروف تسليم السلطة للعسكر. قد يكون ذلك متخيلاً أو مبالغاً به، لكن كل ما يجري يسمح بالشك. ثم، هل هو تفصيل أن تطرح مسألة الاستعانة بالجيش لفرض فتح المطامر على طاولة الحوار؟ ألا يعني ذلك أن ثمة من يحتفظ بورقة الجيش، بغض النظر عن وجهة استعمالها؟، يسأل أحد قياديي الحراك.
مرة جديدة يبدو الرئيس تمام سلام في الواجهة. يواظب منذ أشهر على اتهام مكونات الحكومة بتعطيلها، من دون أن يخرج بموقف حازم من هذا التعطيل. لمّح مراراً إلى الاستقالة، لكنه لم يفعل بعد نصائح من الداخل والخارج، مكتفياً بالتحذير أنه «عندما أشعر بأن الأفق أصبح مسدوداً أمامي بالكامل، فعندها لكل حادث حديث».
بعد أشهر من الشلل، لا يزال سلام يرى أن الأفق لم يُسد. لا يزال يعلق آماله على السياسيين، برغم كل فشلهم، لكنه في المقابل، حزين على الحراك «الغوغائي والتخريبي»!
وإذا كان وزير الداخلية نهاد المشنوق قد أعاد اللعب على وتر «ضرب إرث رفيق الحريري»، مقحماً رئيس الوزراء الراحل باتهامات الفساد الموجهة للسلطة، فإن الهيئات الاقتصادية عادت إلى دورها، متغاضية عن مسؤولية السلطة في شل البلد، وصولاً إلى حد اعتبار الحراك «حملة ممنهجة لضرب روح لبنان النابض، وتحويل الوسط التجاري الى ما يشبه مدينة أشباح»! تناسى هؤلاء أن قلب بيروت لم ينبض منذ ما قبل التحركات الشعبية بسنوات، بفعل ارتهان مكونات السلطة السياسية إلى الخارج وما يرافق ذلك من رهن للبلد بمصالح هذا الخارج.
ما طالب به الحراك المدني، ولا يزال، أن السلطة يجب أن تكف عن بيع البلد أو تقاسمه. لكن الجواب كان: نحن فاسدون لكننا مستمرون! بالنسبة لأهل الحراك، ليس هم من يمعن في ضرب المؤسسات العامة والخاصة إنما من لم يتنازل عن حصة من حصصه أو لم يحاسب واحداً من الفاسدين الذين يتبادلون الاتهامات بالفساد.
«لم يعد بالإمكان القول سوى أن التعطيل ممنهج»، يقول المصدر. فمن يصر على ضرب رأسه في الحائط، لا يحق له الصراخ من الألم. ومن يصر على إغلاق كل أبواب الحلول، لا يحق له أن يحمّل الناس مسؤولية الفشل. الكل يجاهر بأن «البلد رح يفرط». في أي بلد طبيعي، إذا فشلت الحكومة في تلبية حاجات الناس.. تستقيل. وفي أي بلد طبيعي إذا تعذر تشكيل حكومة بديلة لأي سبب من الأسباب، يصار رأساً إلى اللجوء إلى الناس، من خلال إجراء انتخابات نيابية جديدة.
الأمر أسوأ في لبنان والحاجة إلى إعادة إنتاج السلطة أكثر إلحاحاً. ليست السلطة الحالية فاشلة وعاجزة فحسب، لكن الأهم أنها فقدت شرعيتها، كما فقدت ثقة الناس بها. وهذا يعني واقعياً أننا في مرحلة انتقالية تفرض أن تكون المسؤولية مشتركة بين المختلفين عمودياً وأفقياً، أي بين أركان السلطة نفسها وبين السلطة مجتمعة والناس. وهنا تحديداً تكمن مسؤولية الحراك، الذي يفترض به الارتقاء بالشكل التنظيمي، بما يؤهله لأخذ دوره في التحضير لما بعد الفترة الانتقالية، بشكل أكثر فاعلية.
كل ذلك يؤكد أن السلطة أمام ثلاثة خيارات:
ـ الكذب ثم الكذب لكسب الوقت، وهو خيار ذو مخاطر مرتفعة، ليس على السلطة فحسب، بل على بنية النظام ككل.
ـ التحضير لعملية انقلابية تسلم الحكم للعسكر، بانت تباشيرها من خلال إفراغ المؤسسات وتعميم الفوضى، وهو خيار أكثر خطورة من الأول لأنه يقود إلى مستقبل مجهول.
ـ التواضع والإقرار بأن البلد يعيش في مرحلة انتقالية ودعوة الجميع للبحث في كيفية إدارتها.