عندما اعتذرت ميشيل فلورنوي عن عدم خلافة تشاك هيغل لتكون أول وزيرة دفاع أميركية، بدا أن الجميع يريدون القفز من سفينة باراك أوباما المتأرجحة، أو على الأقل لا يرغبون في الصعود إليها. فلورنوي كانت أبرز اسم على قائمة الذين رشّحهم أوباما للمنصب، لكنها رفضت أن تكون ضحية جديدة للخلافات العميقة بين البنتاغون ومستشاري البيت الأبيض حول الأزمة السورية والحرب على «داعش».
وعندما اختار أوباما ترشيح آشتون كارتر الإداري البيروقراطي للمنصب، والذي كان نائبا سابقا لوزير الدفاع، تأكّد أنه مصرّ على المضي في «سياسة اللاسياسة» أو في «الفوضى الاستراتيجية» كما وصفها خبير شؤون الدفاع أنتوني كوردسمان، الذي يرى أن تعيين آشتون سيساعد أوباما على الاستمرار في تطبيق رؤيته من دون اصطدام بين البنتاغون والبيت الأبيض ومجلس الأمن القومي كما حدث مع هيغل.
التناقض الواضح يوم الثلاثاء الماضي بين وزارة الخارجية، التي أعلنت عن الاقتراب من اتفاق مع تركيا على المنطقة العازلة وعن الاتجاه إلى السماح باستخدام قاعدة إنجرليك، وبين البيت الأبيض الذي سارع إلى التخفيف من هذه الاحتمالات، يؤكد تماما أن أوباما الذي دخل عهده مرحلة العدّ العكسي، باعتبار أن ولايته ستنتهي بعد أقل من سنتين، مصرّ على عدم التورّط في حروب خارجية لا في العراق ولا في سوريا.
أمام هذا الانكفاء الأميركي من الضروري الانتباه إلى الاندفاع الروسي نحو الحلبة السورية تحديدا، بعد فترة من الابتعاد النسبي فرضتها ظروف التورط العميق والمكلف في أوكرانيا، وهنا يرى بعض المراقبين أن أفكار المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا التي تدعو إلى «تجميد» القتال في حلب ربما انطلقت من جليد روسيا، التي بدأت منذ أشهر حركة اتصالات ومشاورات بهدف استنساخ صيغة جديدة لمؤتمر جنيف ولكن تحت مظلّة موسكو هذه المرة.
في هذا السياق ذهب دي ميستورا إلى موسكو مرتين، وزار وفد من الضباط والشخصيات السورية المعارضة مع معاذ الخطيب العاصمة الروسية، ثم ذهب وليد المعلم الذي التقى فلاديمير بوتين، وارتفعت حرارة الحديث مجددا عن التسوية السياسية التي لا تزال تدور في دوامة العقدة الواحدة التي سبق أن أفشلت مؤتمر جنيف في مرحلتيه: مصير الأسد.
ما هو موقع الرئيس بشار الأسد من التسوية؟.. هل يتوارى مع حلقته العسكرية وبيئته التي أدارت الحرب التي دمّرت سوريا واستولدت كل هذا الإرهاب؟.. هل يبقى وإلى متى ومع من، ووفق أي صيغة يمكن أن تضمن وقف القتال والانصراف إلى إلحاق الهزيمة بداعش وأخواته؟.. وهل يتم التفاهم على روزنامة واضحة ومحددة ومتفق عليها لعملية «الانتقال السياسي»، التي أفشلت مفاوضات جنيف لمجرد استعمال كلمة «انتقال»، في ظل إصرار أهل النظام على أن «الأسد قائدنا إلى الأبد»؟
معاذ الخطيب عاد من موسكو بجواب لكنه أشبه بسؤال: «الروس غير متمسكين بالأسد، لكن إلى متى يجب أن يبقى، ثلاثة، خمسة، أو ستة أشهر؟ عندما يتّضح هذا الأمر وتكون هناك رؤية واضحة وصريحة تعلن إلى الشعب السوري، ويتم وضع ترتيب معيّن، هذا الشخص سيغادر بالتأكيد، وصلاحيته ستنتهي بطريقة معيّنة، وهذا أمر معقول».
هذا الكلام ليس جديدا، إذ سبق لسيرغي لافروف في مرحلة من الأزمة السورية أن أعلن أن روسيا لا تتمسك بشخص معّين، وهو موقف كررته موسكو أمام وفود عدة، متمسكة بمعارضة انهيار بنية الدولة السورية ووقوع البلاد في الفوضى الكاملة، والموقف الأميركي يتلاقى في هذه النقطة مع موسكو، وكذلك موقف «الائتلاف المعارض» وموقف الجامعة العربية التي دعت منذ ثلاثة أعوام إلى عملية انتقال سياسي في سوريا على الطريقة اليمنية.. لهذا يمكن اختصار الوضع بسؤال واحد:
هل تستطيع موسكو حل عقدة مصير الأسد للبدء في إرساء تسوية سياسية في سوريا تستطيع أن تلملم هذا الحطام من الجغرافيا الممزقة والمشتعلة، وهذا الحطام من المعارضات المنقسمة والمتصارعة، وهذا الحطام من التدخلات والأهداف الإقليمية والدولية المتقاطعة في سوريا؟
وليد المعلم أعلن موافقة النظام على عقد حوار سوري – سوري في موسكو، لكن كلام لافروف عن هذا الأمر بدا وكأنه يشبه القول «الأمر لي»، بمعنى أن موسكو تريد حصة الأسد من أي مؤتمر للحوار بين السوريين: «إننا نرفض تنظيم مؤتمر دولي واسع النطاق بشأن التسوية في سوريا.. إذا كنتم تعوّلون على عقد مؤتمر آخر مثل ذلك الذي عقد في مدينة مونترو بمشاركة 50 دولة وآلاف الصحافيين والتلفزة فإنه لن يعقد».
لكن هل يعني هذا أنهم يريدون عقد مؤتمر للمتنازعين السوريين وراء «ستار حديدي» في موسكو بما يساعدهم على إخضاع المعارضة وترويض الأسد للقبول بروزنامة واضحة ومحددة توضّح بنود عملية انتقال سياسي على مراحل، وتتوازى مع تقدّم الحرب على «داعش» وأخواته، وأيضا مع لملمة شظايا المعارضة؟
المعلومات التي وردت في تقارير دبلوماسية عليا أجمعت في الأسابيع القليلة الماضية قبل زيارة المعلم إلى موسكو وزيارة بوتين إلى أنقرة، على أن الدب الروسي يقظ وواعٍ إلى درجة أنه لن يفوّت الفرصة التاريخية السانحة على الساحة السورية، فإذا كان أوباما يحاذر التورط في سوريا ويفضل الانغماس في النوويات الإيرانية وما لها من تداعيات سلبية ستترك فراغا استراتيجيا عند حلفائه خصوصا في الخليج، وإذا كانت إيران تتحسّب وتعّد لدور محوري على مستوى الإقليم، يمكن أن يتناقض لا بل يَرث النفوذ الروسي في سوريا، فإن بوتين لن يتراجع لحظة عن توظيف كل ما يملك من أوراق الضغط لإنجاح تسوية سلمية في سوريا سيكون ثمنها بالتأكيد رأس الأسد ولو في مرحلة لاحقة.
صحيح أن ملفات الاقتصاد وتصدير الغاز الروسي كانت في مقدمة محادثات بوتين مع رجب طيب إردوغان، لكن الشأن السوري استحوذ على الهمس بينهما انطلاقا من إصرار أنقرة على أنه لن ينجح أي حل في سوريا ما لم يضمن خروجا نهائيا للأسد من السلطة.
والسؤال: هل تستطيع روسيا أن تشتبك مع الأسد مباشرة لإنجاح تسوية شرطها الأساس إقصاؤه، ومع حلفائه الإيرانيين في الكواليس الذين سيخسرون نفوذهم الطاغي في سوريا إذا خسروه؟
من يقرأ كلام المعلم عن شروط النظام لقبول مقترح دي ميستورا بتجميد الصراع، ويكتشف أنه يريد استسلاما كاملا واستباقيا للمعارضة، يعرف مدى الصعوبة التي تواجه الاندفاعة الروسية الاستئثارية في سوريا.