قبل أن يدخل دونالد ترامب الى البيت الأبيض، أبلغه محاميه أن الدعاوى المقامة عليه لأسباب تتعلق بمخالفات تجارية ومسلكية تجاوزت الـ75 دعوى. ونشرت في حينه جريدة «يو اس آي توداي» مقالة موثقة جمعت في تفاصيلها 3.500 دعوى مقامة على مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة، خلال الثلاثين سنة الماضية.
وتساءلت أيضاً صحيفة «نيويورك تايمز» المعارضة لسياسة ترامب عمّا إذا كان من حق موزع البريد الدخول الى المكتب البيضاوي لتبليغ الرئيس. أم أن زميله في مدينة نيويورك سيترك أوراق المحاكم في «برج ترامب» حيث تقيم زوجته الحسناء ميلانيا، عارضة الأزياء السابقة، بانتظار أن ينهي ابنهما بارون عامه الدراسي.
كل هذه الهموم الجانبية تناساها ترامب أمام متعة الاحتفال بتنصيبه رئيساً للولايات المتحدة وسط جمهور اختلفت الفضائيات ووكالات الأنباء حول تقدير أعداده. وزعمت قناة «سي ان ان» في نشراتها المكررة، أن الحضور أثناء تنصيب الرئيس باراك اوباما سنة 2009 تجاوز المليون و800 ألف نسمة، في حين لم يحضر احتفال دونالد ترامب أكثر من 800 ألف نسمة.
واحتج ترامب على هذا التقدير، معتبراً أن المقارنة مصحوبة بسوء النية كي تقلل من قدره ومن ضخامة شعبيته. ورأى ترامب في تغطية الصحف والفضائيات لنشاطاته تجاهلاً متعمداً قرر الرد عليه بوسائله الخاصة.
أثناء أدائه اليمين الدستورية، حدد ترامب مسار الولايات المتحدة في عهده، مشدداً على الأولوية التي سيوليها لمصالح البلاد قبل أي شيء آخر. ويُستدَل من الايحاءات الرمزية التي ملأ بها «خطاب العرش» أنه عازم على محو كل إرث سياسي أو اقتصادي تركه سلفه باراك اوباما. وقال في هذا السياق إنه عازم على إطلاق «حركة» جديدة تنقل سلطة الإدارة من العاصمة واشنطن الى الشعب الأميركي.
ثم التفت نحو الجماهير الغفيرة وخاطبها مستطرداً: لقد تغير ذلك كله بدءاً من هنا ومن الآن. ذلك أن هذه اللحظة هي لحظتكم. إنها ملك كل شخص في هذا الحشد… وكل مواطن في أنحاء أميركا.
وبعد أن مسح حبات المطر عن شعره الأشقر، رفع صوته على الميكرفون، وأكمل: سيُذكر يوم 20 كانون الثاني (يناير) 2017 على أنه اليوم الذي أصبح فيه الشعب هو حاكم هذه البلاد مرة أخرى. لقد خرجتم بعشرات الملايين لتكونوا جزءاً من «حركة تاريخية» لم يشهد لها العالم مثيلاً من قبل!
في تلك اللحظة، تحولت كاميرات الشبكات التلفزيونية عن ترامب، لتسجل نظرات الدهشة التي تناقلها بين الحضور الرؤساء بيل كلينتون وجورج دبليو بوش وجيمي كارتر. وكان واضحاً لهؤلاء الرؤساء ولسواهم، المعنى المستتر خلف هذه الكلمات المبهمة، خصوصاً بعدما نقلت شبكات التلفزيون وقائع الزيارة المفاجئة التي قام بها ترامب لتمثال الرئيس ابراهام لينكولن، مَثَله الأعلى في الحكم. وأشارت افتتاحيات بعض الصحف الى أن ترامب استوحى خطابه من بيان «حزب الشعب الأميركي» الذي أنشئ سنة 1891، والذي دعا الى سيطرة الدولة على المرافق العامة.
المخالفة الكبرى التي ارتكبها دونالد ترامب، ظهرت خلال خروجه على تقاليد مراسم أداء القسم. أي التقاليد التي تعبّر عن احترام قواعد الدستور، والعمل بروح المصالحة الوطنية، والاستعداد للتعاطي مع الحزب المهزوم بشهامة ورحابة صدر.
وبدلاً من العمل بروحية التعاون والانفتاح، كرر انتقاده لسياسة سلفه باراك اوباما بطريقة منفّرة استفزازية كادت تدفع ميشيل اوباما الى مغادرة شرفة الاستقبال. ومن المؤكد أنها تضايقت من قوله: «لقد انتهى وقت الكلام الفارغ. ولن نقبل بعد اليوم سياسيين يتحدثون ولا يفعلون.»
وعلى سبيل المقارنة، واستعادة ما جاء في خطب الرؤساء السابقين، تحضرنا كلمات خطاب القسم لفرانكلن روزفلت (4 آذار – مارس 1933) وقوله: «نطلب من مختلف شرائح المجتمع الأميركي أن يتحدوا ويتضامنوا للتغلب على الضائقة الاقتصادية التي تمثلت بما عُرف عقب سنة 1929 بـ «الانهيار الكبير».
والأمر ذاته ينطبق على خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس جيرالد فورد (9 آب – اغسطس 1974)، بعد استقالة ريتشارد نيكسون في ظل صدمة فيتنام وقضية ووترغيت. ذلك أنه طلب من الأمة منح الوحدة الوطنية فرصة للانتعاش على خلفية الأزمة الدستورية والسياسية التي نتجت من تورط نيكسون في عدد من المخالفات الجنائية الخطيرة.
خطاب الرئيس الأميركي الـ45 كان مختلفاً في جوهره عن كل نصوص خطب الرؤساء السابقين، كونه تجاهل سنوات حكم سلفه باراك اوباما، ووعد المواطنين بازدهار غير مسبوق يعيد للبلاد دورها وعظمتها. وأوحى للحاضرين في حفلة تنصيبه أنه وحده قادر على تنفيذ هذه المهمة الخارقة، خصوصاً عندما انتقى أغنية فرانك سيناترا ليفتتح بها مع زوجته الرقص فوق الحلبة. وتنتهي كلمات الأغنية بلازمة تقول: أنا عملتها وفق طريقتي
!I did it my way
وبالفعل، باشر عقب «الويك اند» في ممارسة طريقته بتوقيع إلغاء عضوية بلاده في اتفاق التبادل الحر عبر المحيط الهادي. ووعد باستكمال تصحيح الأوضاع الاقتصادية التي يعتبرها مجحفة بحق المواطنين. لذلك بدأت موجة الإضرابات ضده تنحسر تدريجياً، خصوصاً بعدما منحته المعارضة، الممثلة بالحزب الديموقراطي، فرصة لا تتعدى المئة يوم. ولكنه مؤمن بأن أكثرية حزبه في الكونغرس ستدعمه حتى سنة 2020 بحيث يصبح مؤهلاً للعبور الى ضفة الولاية الثانية.
حول هذا الموضوع، كتب الأكاديمي البريطاني روجر اوين مقالة شكك فيها باحتمال تمديد ولايته الأولى، لأسباب عزاها الى وضعه الصحي. علماً أن الفحوصات الطبية التي أجراها قبل إعلان ترشيحه للرئاسة أثبتت أنه في صحة جيدة، تخوله القيام بالمهام الموكولة اليه.
ولكن المخاوف التي ولدت لديه هذا الشعور المقلق ناتجة من تعهد ترامب نقل السفارة الأميركية من تل ابيب الى القدس. ومثل هذه الخطوة الاستفزازية في حال تنفيذها، من المؤكد أنها ستضع حداً نهائياً لحل الدولتين، وتساهم في دعم القوى المؤيدة لتنظيم «داعش». أي التنظيم الذي أعلن الرئيس الجديد أنه سيقضي عليه ويزيله عن وجه الأرض.
ولكن، هل هذا التهديد قابل للتنفيذ من دون موافقة روسيا أو مشاركتها؟
عن هذا السؤال أجاب وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بالقول: إن موسكو تشاطر نهج الرئيس الأميركي المنتخَب دونالد ترامب في أولوية مكافحة «داعش»، وتأمل بأن تكون ظروف التعاون الجديدة لمحاربة الإرهاب أكثر فاعلية.
يقول نيكولاي كوزانوف، خبير الشرق الأوسط في جامعة بطرسبرغ، إن «الربيع العربي» كان كافياً لإقناع بوتين بأن انسحاب روسيا من الموقع المتقدم في الشرق الأوسط الذي ورثته عن الاتحاد السوفياتي كان خطأ فادحاً. ولكن بوتين لا يزال يدرك أيضاً أن إلغاء الإرث التاريخي الذي ساهمت الولايات المتحدة في رسم معالمه بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن بالأمر السهل. لذلك قرر التدخل في العملية الانتخابية الأميركية التي انتهت بفوز دونالد ترامب. ومع تولي الرئيس الجديد منصبه، يطمح الرئيس الروسي الى تثبيت نموذج متطور للمنطقة يقوم على شراكة مع واشنطن. وهذه الشراكة في رأيه تحول دون تكرار سياسة التدخل الوقح الذي مارسته الولايات المتحدة أثناء الإطاحة بصدام حسين في العراق، ومعمر القذافي في ليبيا.
وبسبب التورط العسكري الذي دخله بوتين من البوابة السورية، كان نجاحه في حسم معركة حلب أظهره كواحد من الرؤساء الأقوى في العالم. ولا يستند هذا الوصف الى قدرته على التدخل في الانتخابات الأميركية فحسب، بقدر ما يستند الى قدرته على رسم خريطة المنطقة، والى العمل حالياً على وضع دستور عصري للجمهورية السورية صالح لما بعد سنة 2017.
على صعيد آخر، يفاجئ الرئيس ترامب مواطنيه الأميركيين بتحقيق وعد من الوعود الى طرحها أثناء حملته الانتخابية. وهو حالياً ينتظر زيارة رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو لكي يستوضح منه عن أهمية الجدار العازل الذي أمر شارون ببنائه لمنع تسلل الفلسطينيين. وبما أنه عمل كمتعهد بناء، فقد تعهد بالإشراف على بناء جدار الفصل مع المكسيك. وهو القرار الثالث الذي اتخذه هذا الأسبوع.
سئل الناطق باسم البيت الأبيض شون سبايسر عمّا إذا كان الرئيس ترامب يؤيد قرار اسرائيل بناء 2500 وحدة سكنية في الضفة الغربية. وبما أنه لا يعرف الجواب بعد، فقد ذكر أن اسرائيل لا تزال الحليف المهم للولايات المتحدة… وأن ترامب يريد التقرب أكثر من اسرائيل لضمان حصولها على الاحترام التام في الشرق الأوسط.
ومن الواضح أن الناطق الرسمي لمح الى نية رئيسه الحصول على اعتراف رسمي من كافة دول المنطقة، ولو كان ذلك على حساب إلغاء مشروع حل الدولتين. والدليل على سوء النية أن الإدارة الجديدة في واشنطن تقوم بمراجعة قرار اتخذه وزير الخارجية الأسبق جون كيري بتحويل 220.3 مليون دولار لبرنامج إعادة إعمار ما هدمته اسرائيل في غزة. وقد تمت عملية التصحيح بحجة أن غزة ليست من أولويات إدارة ترامب.
وكان هذا كافياً لتصنيف الرئيس الاميركي الـ45 بين أهم أعداء الشعب الفلسطيني!