يُجمع معظم المسيحيين المهجّرين على أنّ العودة الى قراهم وبلداتهم في سوريا والعراق باتت مستحيلة في هذا الظرف، خصوصاً مع استمرار آلة القتل والتهجير، فيما ينظرون الى لبنان، الآمن حتّى الآن، كمقرّ موقّت يَحتمون به ريثما تنتهي هذه الحرب الشرق-أوسطية.
شكّل لبنان ملتقى المضطهدين والأحرار في الشرق على مرّ التاريخ. هذه البقعة التي تتنشّق حرية، وجد فيها مسيحيّو الشرق ملاذاً آمناً، مثل جميع المهجرين، لكنّ القول إنّ هذا الاحتضان ينبع من حسٍّ طائفي، هو كلام في غير مكانه، لأنّ لبنان احتضن ما يزيد عن مليوني نازح ولاجئ سوري وفلسطيني من لون ديني معروف، وفتح ذراعيه لاستقبالهم، على رغم أنهم باتوا يشكلون عبئاً عليه باعتراف المنظمات الدولية، ومشكلة يبدو أن لا حلّ لها في الأفق القريب.
يجتمع الآشوري والكلداني والسرياني والأرثوذكسي والكاثوليكي في رحاب لبنان، وقصّتهم واحدة: هُجّرنا لأنّ الهجوم كان قوياً ولجأنا الى لبنان. وقد حرَّكت الأحداث التي حصلت مع دروز إدلب، قضيّة الأقليّة المسيحية في سوريا خصوصاً مع ما تشهده بلدات نهر الخابور الآشورية من معارك.
فالأخبار التي ترِد الى الآشوريين الموجودين في لبنان تؤكّد أنّ المعارك ما زالت تدور على مسافة قريبة من البلدات الآشورية بين وحدات الحماية الكردية و«داعش». والآشوريّون ما زالوا مهجّرين في الحسكة، وبلداتهم فارغة من سكانها ولا قدرة لهم على تأليف جيش دفاع لأنّهم أقلية ويفتقدون الى السلاح، أمّا «داعش» فتتفوّق عليهم عدّة وعدداً، بآلاف المرات.
لا يمكن لوم الآشوريّين وبقية الأقليّات على تَرك بلداتهم الساقطة عسكرياً، فهم يقولون إنَّ وضعهم مغاير لوضع مسيحيّي لبنان، «ففي لبنان تجد كنيسة ومزاراً كلّ 10 أمتار، وقديساً في كل منطقة.
وجغرافياً، لبنان محسوب على المسيحيين الذين يملكون أكثر من نصف أراضيه من الشمال الى الجنوب مروراً بالبقاع والجبل وبيروت، أمّا بقية الشرق فلم يعد لنا». ويُعبّر الآشوريون والكلدان والسريان المهجّرون عن إيمانهم الكبير بأنّ «المسيح لا يريد أن يخسر لبنان أرضاً للمسيحيّة»، وهم يراهنون على الموارنة ليُعيدوا الى المسيحيين «أمانهم والقوة التي يحتاجون إليها ليصمدوا في هذا الشرق».
عودة الأشوريّين الى قراهم تبدو شبه مستحيلة، لذلك تحرّكت قيادتهم الدينية الممثّلة برئيس أبرشيات لبنان واوستراليا ونيوزليندا المتروبوليت مار ميليس زيا، والخورأسقف يترون كوليانا، وزارت قيادات الدولة اللبنانية، وأبرزها المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم الذي عمل على خطّ مسيحيّي سوريا بتكليف من الدولة اللبنانية ونجح في إنجاز صفقة تحرير راهبات معلولا، وشكروا له الدعم الذي أظهره للآشوريين من خلال تسهيل الاجراءات لاستقبال المسيحيين المهجّرين.
وقد سمع الوفد كلاماً واضحاً من ابراهيم مفاده «اننا نعمل مع الفاعلين الكبار من أجل الحفاظ على الوجود المسيحي في الشرق لأنّنا لا نريد خسارتهم، ونسعى لإعادة الآشوريين الى قراهم، لكن في حال لم نتمكن من ذلك، وإذا تطوّر الوضع أكثر في سوريا وزاد الخطر، فإنّ لبنان سيُرحّب بهم، وسيكون ملاذهم الآمن، وسيلقون كل الاستقبال الحار، وبالطبع سيكونون عاملاً مساعداً لبلدنا».
تركَ كلام إبراهيم أثراً طيباً في نفوس الآشوريين والاقليات المسيحية الأخرى، خصوصاً أنّ وزير الداخلية نهاد المشنوق كان قد أعطى توجيهاته الى الاجهزة الأمنية باستقبال الآشوريين وعدم معاملتهم كنازحين، وفي ذلك رسالة من الدولة اللبنانية الى جميع مسيحيّي الشرق بأنّ لبنان يُرحّب بهم خصوصاً أنّ ابراهيم يعمل أيضاً على إطلاق مطرانَي حلب المخطوفين يوحنا ابراهيم وبولس اليازجي.
لكنّ القضية الثانية الأهمّ، تبقى طريقة عمل الكنائس بعضها مع بعض، فأصابع اليد هي خمسة والبطاركة الخمسة الذين جمَعتهم قمّة دمشق أخيراً، سيصبحون إذا اجتمعوا، «كفّاً» يستطيع صَدّ من يهاجم المسيحيين. من هنا يجب تضافر جهود الإغاثة والإيواء واحتواء الصدمة، لا أن تنتظر أيّ بطريركية من البطريركيات الخمس أن تطلب رعية أخرى المساعدة، بل يجب أن تتحرّك تلقائياً لإنقاذ ما تبقى من وجود مسيحي في الشرق.
ومع تسارع الأحداث، ستَزداد موجة الهجرة المسيحية الى لبنان، ما يزيد من مسؤولية الرهبانيات التي تملك مساحات شاسعة من الأراضي لتستقبلهم وتهتمّ بهم وتحافظ عليهم.