لا يكشف الجدل حول تشكيل الحكومة اللبنانية نزاعاً بين الشيعية السياسية والمارونية السياسية تتأمله بحياد السنّية السياسية. تؤكد الواقعة أن قرار الحكم خرج من قالب الصفقة المارونية السنّية التي تعود إلى 1943، ودخل في مسلّمة الثنائية المارونية الشيعية والتي لا دور للسنّة إلا مجاراتها ومداراتها والتأقلم مع شروطها.
وما يشبه الاحتكاك الفاتر، وربما المزعوم، بين رؤية الرئيس ميشال عون لموقعه على رأس الدولة ورؤية السيّد حسن نصر الله لموقع حزبه داخل هذه الدولة، لا يعدو كونه تمريناً طبيعياً يجري بين شركاء يتجادلون منطقياً حول شروط هذه الشراكة، وليس كما يخيّل للبعض أعراض تصادم بين مفهوم الدولة التي يرومها «ابن الدولة» ومفهوم اللادولة التي يدافع عنها زعيم «حزب الله».
لا ينسى الرئيس عون وتياره أن مسيرته الرئاسية، منذ عودته إلى لبنان من منفاه الفرنسي عام 2005 إلى لحظة ولوجه باب القصر الرئاسي في بعبدا، تدين في جانب كبير منها إلى «ورقة التفاهم» التي جمعت «التيار الوطني الحرّ» بـ «حزب الله» عام 2006، وأن قناعات الرابية كانت تتأسس على ثابتة مفادها أن لا أحد سيوصل عون إلى الموقع الأول في لبنان إلا الحزب، تماماً كما كان أمر الوصول إلى بعبدا يمر عبر دمشق طوال فترة الوصاية السورية.
وأياً كان جدل هذه الأيام حول ما إذا كان «حزب الله» جديّاً في إيصال «مرشحه الوحيد» إلى سدة الرئاسة أم أنه اضطر إلى ذلك بعد الإحراج الذي سببه موقف سعد الحريري في تأييد خيار عون، فالحدث أضحى أمراً واقعاً يتعامل الحزب معه بصفته فرضاً لخياراته، وتعتبره طهران على لسان مسؤوليها «انتصاراً لمحور المقاومة في المنطقة». وعليه فرئيس الجمهورية الجديد يأخذ في الاعتبار تاريخ العلاقة التحالفية المشتركة مع الحزب، وأن للحزب مصالح محلية وإقليمية لا يجب أن تغيب عن باله في مقارباته المقبلة مع دول المنطقة والعالم. وقد يقول قائل إن الحافز الأساسي لاندفاع عون إلى الابتعاد عن موقعه «الطبيعي» داخل تحالف «14 آذار» والمقامرة بالانتماء إلى التحالف الخصم المؤيد لدمشق وطهران، هو انتفاء حظوظه الرئاسية داخل ما هو «طبيعي» وارتفاعها داخل ما كان بديلاً، وأن وصوله إلى مبتغاه قد يتيح له التحرر من التزاماته الحزبية المتعلقة بثنائية العلاقة مع حزب آخر باتجاه جرّ هذا الآخر للتسليم بقواعد موقع حليفه الجديد، خصوصاً لجهة تمثيله لمصالح «التفاهم» داخل موقع الرئاسة الأولى. وقد يقول قائل آخر إن تبدّل موقف زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري لمصلحة دعم ترشّح عون للرئاسة متخلياً عن مرشحه السابق سليمان فرنجية، هو الذي أنهى الفراغ الرئاسي وأنجز لعون طموحاته التي لم يستطع تحالفه مع «حزب الله» بكل ما يملكه من قوة محلية وإقليمية، تحقيقها، وأن هذه الحقيقة تحرر الرئيس من جميل الحزب وتخفف من سطوته على عهده. لكن تفحّصاً آخر سيقرأ الحدث، لا سيما موقف الحريري، بأنه حصيلة عناد الحزب ومن ورائه طهران في إبقاء قصر بعبدا مقفلاً إلى إشعار آخر، وأن جميل هذا المحور سيبقى ماثلاً لا تخطئه عين.
لا يمكن الاستسلام إلى نظرية تدافع عن صناعة لبنانية محلية أنتجت الصفقة الرئاسية. حريّ القبول بأن القوى الإقليمية والدولية قبلت بما لم تقبل به قبل ذلك، وسهّلت لمرشح إيران في لبنان العبور نحو الرئاسة. ليس في الأمر عيب أو جديد في تاريخ الانتخابات الرئاسية في لبنان، فكل الرؤساء السابقين منذ الاستقلال وصلوا إلى مواقعهم من خلال آلية التسوية الإقليمية الدولية التي تمر عبر سماح جهات بمرشّح جهات أخرى. وحريّ أيضاً القبول بأن العواصم التي أرسلت، أو التي سترسل، موفديها إلى بيروت للقاء الرئيس اللبناني الجديد، بما في ذلك دعوته لزيارتها، تعلم تماماً أنها تقارب حليف الحزب وطهران في بعبدا.
بإمكان الرئيس ميشال عون أن يتسلّح بمجموعة عوامل تتيح له توسيع هامش استقلاليته فتمنحه رشاقة في المناورة في التعامل مع «حزب الله» ومجاراة أجندته، أولها أن الرجل يمثّل وزناً مسيحياً، كاد أن يكون كاسحاً في مفاصل عدة، وتحالفه مع حزب «القوات اللبنانية»، المعادي لـ «حزب الله»، محضه مُقويات مسيحية رديفة تجعل وجوده الرئاسي إرادة مسيحية قبل أن تكون خياراً لـ «حزب الله». ثاني تلك العوامل أن حاجة «حزب الله» للتحالف مع التيار العوني (المسيحي) لا تقل أهمية عن حاجة عون لذلك التحالف، وأن عون لم يزح قيد أنمله عن خط ذلك التحالف على رغم الضغوط الحادة التي ولّدها تناقض الذائقة العونية وتلك التي تحكم حركة الحزب العسكرية في لبنان وسورية وبلدان أخرى. ثالث العوامل أن معارضة الرئيس نبيه بري لترشّحه تجعل عون متحرراً من سطوة «الشيعية السياسية»، وأن استخدام الحزب لبري لتمرير رسائله لعون، تتيح للأخير استخدام بري أيضاً في تمرير رسائل الرد المقابل. رابع العوامل أن الالتفاف العربي، لا سيما السعودي- الخليجي، حول شخص الرئيس اللبناني الجديد يمنحه غطاء مضافاً آخر، ليس بالضرورة أن يكون مناقضاً وبديلاً عن غطائه التقليدي الذي توفّره له إيران.
ومع ذلك، جدير الالتفات إلى أن قماشة العهد الجديد تمتد مؤسَّسةً على تواطؤ حقيقي بين شكل من أشكال المارونية السياسية وشكل من أشكال الشيعية السياسية، وأن السنّية السياسية التي عبّرت عنها مبادرة الحريري الرئاسية تمثّل تسليماً بهذه الحقيقة والقبول بالعمل تحت سقفها. صحيح أن الأمر الواقع لم ينتج من «دوحة» جديد أو «مؤتمر تأسيسي» متوخى، لكن شروط عمل مؤسسات لبنان تجري وفق شروط وقواعد «دولة حزب الله».
* كاتب وصحافي لبناني