بدأت مشاكل الأراضي في ميفوق منذ نحو 100 عام، أجيال توالت على البلدة وأحدٌ لم يستطع التوصّل إلى حلّ. أمّا يوم أمس فشكّلَ يوماً مفصلياً في رحلة الـ 100 عام، إذ انطلقَ تنفيذ الحلّ المُنتظر، على رغم بعض المعارضات، وبدأ الأهالي بتقديم الطلبات لتملّكِ الأراضي.
«قضيّة التملّك هي الشغل الشاغل للأهالي، إذ مرّت سنوات لم نَسمع فيها إلّا الوعود»، يقول أحد أبناء ميفوق. «فهل صحيح أنّ أوانَ التنفيذ قد حان؟»… سؤال يطرحه غالبية الأهالي، خصوصاً بعد الاجتماع العام الذي عُقد بداية سنة 2016 وشكّلَ «عيدية» لهم، كما يقول أحد السكان. فيما يوضح آخَر أنّها «مشكلة تاريخية عمرُها أكثر من مئة سنة، وهي أهم قضية لأبنائنا الذين انتظروا عشرات السنين ليمتلكوا أرضاً ومنزلاً ولإسقاط كلمة «شريك» عَنّا وعن أبنائنا».
الحلّ المقترح
بعد طول انتظار ومفاوضات وُصِفت بالشاقة، تمّ التوصّل إلى ورقة حلّ عُرضت على الهيئة العامة لأهالي ميفوق والتي اجتَمعت في 3 كانون الثاني 2016، حيث طرحَ بعض الأهالي حالات خاصّة لم يَشملها الحل، لكن وبَعد النّقاش اتّفِق على معالجة المشاكل التفصيلية مع الرهبنة المارونية وتمَّ التوصّل إلى حلّ بعض المشاكل، إضافةً الى الاستحصال على توقيع رسمي من الرهبنة يؤكّد موافقتها عليه… وهذا ما حصل.
يقضي الحلّ بتمليك كلّ المنازل والخرَب، وعددُها 70 تقريباً، لأصحابها من دون بَدل مع 2000 متر مربّع، إضافةً إلى حصول كلّ شاب لا يملك أرضاً وبَلغ الـ18 عاماً على عقار لا تقلّ مساحته عن 1600 متر مربّع بسِعر رمزي حُدّد بـ3 دولارات للمتر، ومَن شاء يمكنه اختيار عقارات بسعر 15 دولاراً للمتر الواحد. وقد بدأ المستفيدون أمس بتقديم الطلبات لتنطلقَ رحلة نقلِ الملكية».
المشكلة مُزمنة
تاريخ طويل من المشاكل طغى على نزاع الأراضي في ميفوق، وللاطّلاع على تفاصيل حلّ مشكلة التملك بين الأهالي والرهبنة المارونية، توجّهَت «الجمهورية» إلى البلدة، حيث زوَّدنا مصدرٌ مطّلع على الملف بمعلومات ووثائق تُنشَر للمرّة الأولى عن تفاصيل الحلّ الذي بدأ العمل الفعلي عليه عام 1996، فأوضَح أنّ «الأب توما مهنّا الذي كان رئيساً لدير سيّدة ميفوق طرَح على أهالي البلدة فكرة حلّ مشكلة التملّك بالحوار، ولاقاه يومَها يوسف أديب وهبه مفوّضاً من الأهالي، حيث سَوَّق فكرة الحوار في البلدة، طارحاً أن يتابع المحامون عملَهم ولنتابع نحن حوارَنا، والذي يصل إلى نتيجة مع الفريق الآخر نسير معه»، وهذا ما حصَل.
ويضيف المصدر: «بدأت أولى خطوات الحلّ في اجتماع عُقد في دير سيّدة ميفوق في 17 كانون الأوّل 1996 واتُّخِذ قرار باقتراح مشروع حلّ على سلطة القرار في الرهبنة التي حوّلت هذا الاقتراح في تاريخ 30/1/1997 إلى لجنة درسَته وأحالته مجدّداً إلى الرئاسة العامة التي أصدرَت بدورها الوثيقة الأولى في هذا الموضوع من خلال قرار اتُّخِذ بتاريخ 4/2/1997 يتضمّن تفاصيل الحل المقترح من الرهبنة.
أمّا في تاريخ 16/12/1998 فعُقد المجمع العام وناقشَ استثنائياً قضية الحلّ في ميفوق، واتّخَذ قراراً ملزماً لأيّ سلطة رهبانية باعتماده، وهنا بدأت المفاوضات الفعلية مع الأهالي، حيث شكّلت لجنة تمثّل الأهالي وضمَّت رئيس البلدية يوسف أديب وهبه والمختارين أنطوان سلامه وكمال الحشاش، وثلاثة ممثلين عن الرهبنة».
ويشير المصدر الى أنّ «المفاوضات أخذت مدّاً وجزراً وكانت في بعض الأوقات تتوقّف أو تُهمَل، وعندما عُيّن الأب أنطوان خليفة رئيساً لدير سيّدة ميفوق تكثّفَت المفاوضات ودخَلنا في التفاصيل حيث تمّ التوصّل إلى صيغة، وطُلِب من الأهالي الموافقة عليها».
ويضيف: «عندها اتّصل وهبه بالمحامي المكلّف من الأهالي بمتابعة الموضوع قانونياً وأبلغَه أنّ هناك صيغة حلّ، اطّلع عليها ووافق، وعندها وافقَ أعضاء لجنة التفاوض وبدأ العمل على وضع آلية الحلّ من خلال إحصاء للمستفيدين وفرزِ أوّلي للعقارات، وهذه الفترة سُمّيَت فترة التوثيق، وانتهَت عام 2009، حيث عُقد مجمع ديريّ في 9 تمّوز بحضور جميع رؤساء الأديرة المتعاقبين منذ العام 1996 مع المدير الأب ميلاد طربيه، وأقرّوا الصيغة النهائية والمفصّلة للحلّ مع العقارات والأسماء المستفيدة».
موافقة الرهبنة
ويوضح المصدر أن «السلطة في الرهبنة وافقت آنذاك وتم تحويل صيغة الحلّ إلى روما في 22/10/2009، حيث نال الموافقة في 26/7/2011 وأصبح جاهزاً للتنفيذ. أما في العام 2013 فعُيّن الأب الياس العنداري رئيساً على دير سيدة ميفوق وكان ذلك مؤشراً لرغبة الرهبنة في تنفيذ الحل وبوشر العمل على درس طريقة تطبيقه.
عندها طالب الأهالي بتوسيع لجنة التفاوض وتمّ اقتراح إسمين، لكنّ العقبة الأولى التي اصطدم بها المفاوضون كانت أن الحلّ يقضي باستفادة كل شاب يبلغ 18 عاماً لكنّ العدد كان قد زاد عن اللائحة الموضوعة عام 2009 بنحو الـ 150 إسماً، فتمّت الموافقة على المبدأ لكن بقيَت هناك حاجة لتوقيع جديد وموافقة جديدة من روما، وقد تمّت الموافقة في تاريخ 13/10/2015».
رأي الرهبنة
بهدفِ استكمال الصورة كان لا بدّ مِن معرفة رأي الرهبنة اللبنانية المارونية في الحلّ، ولهذه الغاية قصَدنا رئيسَ دير سيّدة ميفوق الأب الياس العنداري وسألناه عن هذه القضية، ليؤكّد أنّ «الرهبنة المارونية قرَّرت إنهاءَ هذه المشكلة التي كانت تقلِقها وتشكّل عقبات أمام دورها في خدمة المجتمع على الصُعد الدينية والاجتماعية والتربوية، لذلك بدأت مشاورات مع الأهالي تمخَّضَت حلّاً شاملاً ترغَب الرهبنة في تنفيذه اليوم قبل الغد، وقد حازَ التدبير الرهباني موافقة السلطات الكنَسية العليا وموافقة الكرسي الرسولي، وهو أتى نتيجة مشاورات استغرقَت وقتاً طويلاً مع الأهالي ونالَ موافقتَهم».
ويكشف أنّ «الرهبنة أرادت القول للأهالي إنّ الراعي يعيش مشاكلَ الرعية وهمومَها وسيقوم بكامل واجباته انطلاقاً من الإرشاد الرسولي وتنفيذاً لمضمونه وانسجاماً ومتابعةً لماضي هذه المؤسسة المباركة ولتاريخها الكنَسي واللبناني المجيد».
أمّا بالنسبة إلى الاعتراضات، فيؤكد العنداري «أننا أبلغنا اللجنة الممثلة للأهالي انفتاحَ الرهبنة على معالجة أيّ قضية محِقّة وبروح إيجابية، فمشكلةٌ عمرُها مئة سنة لا يمكن حلّها بمئة ساعة».
البلدية
في المقابل، يرفض رئيس بلدية ميفوق يوسف أديب وهبه الردَّ على أحد، ويقول: «كانت مفاوضات شاقّة، وفعَلنا ما أرضى ضميرَنا، والذي يستطيع أن يفعل أفضلَ من ذلك فليتفضّل»، لافتاً إلى «أنّنا نركّز على المرحلة المقبلة وعلى طريقة مساعدة أبناء القرية، خصوصاً المحتاجين منهم، على التملك، وفي مرحلة ثانية على بناء منزل، وجهودُنا تنصبّ على درس إمكانية تكليف شركة خاصّة مموّلة من مصارف وجمعيات أهلية ودينية
لاستكمال الإفراز من ناحية، وتأمين قروض سَكنية للراغبين في البناء من ناحية أخرى، إضافةً إلى درس نظام مدني خاص للمناطق المفرزة والممتلكة حديثاً بما يُراعي الشروط الصحّية والبيئية ويُحافظ على الطابع التراثي والسياحي للبلدة، ودَرسِ كلفة أعمال البنى التحيتية الرئيسة ومحاولة العمل مع القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة في الدولة من أجل قيام وزارات الدولة، خصوصاً وزارتي الطاقة والمياه والأشغال، بالأعمال الرئيسة للبنى التحتية».
إعتراضات
مشاكل بلدة ميفوق لا تختلف عن غيرها من المشاكل التي تشهدها البلدات اللبنانية، إذ تظهَر فئة من المعترضين عند صوغ أيّ حلّ، وفي السياق كان لنائب رئيس البلدية البروفسور جورج الحاج رأيٌ مختلف في هذه القضية، إذ يوضح لـ«الجمهورية» أنّ هناك «دعوى مقامة من بعض المحامين في ميفوق ضد الرهبنة بتهمة اغتصاب الأرض واستغلال طيبة الناس وثقتهم وإيمانهم المسيحي من أجل استملاك الأرض، وأساس الدعوى استغيابهم للناس وتقريرهم المساحة الاختيارية من دون إبلاغهم، علماً أنّهم أصحاب الشأن، لذا عَملنا على حلّ الموضوع على مستوى مسيحي عادل ومنصف، وفضّ إشكال بين أهالي المنطقة الواحدة».
ويؤكد الحاج أنّ «الأرض لا يستثمرها أحد، ولا يمكن للرهبان بيعُها، وفي المقابل لا يَعمل فيها أحد، لذا الأرض «ميتة» وكذلك حال البلدة، فميفوق التي يبلغ عدد ساكنيها نحو 7000 لا يقطن فيها صيفاً أكثر من 500»، لافتاً إلى أنّ «كلّ الحلول السابقة عرقلها الرهبان لأسباب مختلفة، أمّا الأهالي فيريدون إنهاءَ المشكلة».
وعن الحل المُقترح عبر دفع الأهالي مبلغاً زهيداً مقابل استرجاع الأراضي، يَستنكر الحاج الفكرة، قائلاً: «لا يمكن التعامل مع أشخاص حقُّهم مأكول من خلال إعطائِهم ربعَ ما هو لهم وإرغامِهم على دفع ثمنِه، ومهما كان السعر زهيداً، فالاتّفاق الذي توصّلنا إليه مع الرئيس السابق للرهبنة اللبنانية المارونية الأباتي أثناسيوس جلخ، قضى بأن يُعطى ألفا متر لكلّ شاب بلغ الـ 18 من عمره، وتتوزّع البيوت لأصحابها، إضافةً إلى تسهيل عملية الإفراز، ولو أتمّوها عام 2001 لتفادوا التعقيدات التي تشهدها حاليّاً».
ويُضيف: «آنذاك اتّفقنا على الحلّ وكنّا على وشك البَدء بتنفيذه ضمن بنود واضحة تقوم على توزيع البيوت والخرَب على أصحابها، وكلّ ذلك من دون مقابل مادّي، بحيث يوزّع نحو مليوني متر مربع على الأهالي ويبقى للرهبنة نحو 14 مليون»، مشدّداً على «أنّنا لا نريد منهم أن يتركوا البلدة بل أن نتعايش سَويّاً من دون مشاكل»، مؤكّداً «أنّنا مستعدون لأيّ حلٍّ حبّي، لكن إذا لم ننجح، سنترك الأمر للقضاء».
تحوّل ونهضة
عندما تعود من زيارتك لبلدة ميفوق القطّارة تتأكّد أنّ هناك عملاً ضخماً يتمّ تنفيذه، إذ يقول المصدر الذي قابلناه إنّ «البلدة ستَشهد تحوّلاً ونهضةً في السنوات المقبلة»، لافتاً إلى أنّ «الحلّ في بلدتنا استثنائيّ نسبةً إلى كلّ الحلول مع الأوقاف التي شهدتها البلدات الأخرى، فجميع أبناء القرية أصبَحوا مالكين، كلّ عائلة مؤلّفة من خمسة شباب أصبحَت تمتلك نحو عشرة آلاف متر تقريباً، أي أنّ أكثر من 80 في المئة من الأراضي الصالحة للسكَن
سيمتلكها الأهالي، وما يُحكى عن ملايين الأمتار أرقام غير دقيقة، فقد أفادَنا المسّاح أنّ كلّ مساحة بلدة ميفوق تبلغ 7 ملايين و300 ألف متر، وهناك 4 ملايين متر أودية وأراضٍ مصنّفة حرجية، وبالتالي لا يمكن البناء عليها»، مضيفاً: «في السابق تمّ امتلاك نحو الـ 700 ألف متر، وباكتمال الحلّ سيكون قد تمّ نقلُ نحو مليوني متر مربّع للأهالي».
ويردّ المصدر على «بعض مروّجي الشائعات لجهة أنّ الكرسيّ الرسولي طلب في موافقته على الحلّ توزيع الأراضي بلا بدل»، فيؤكد «أننا نملك صورةً عن موافقة روما ولا تتضمّن هذا القول. كفى متاجرةً بحقوق الناس وبعواطفهم لاعتبارات شخصية وطموحات سياسية».