بعد أول عملية نفذتها الطائرات الحربية الروسية فوق الأراضي السورية، صدر عن الحكومة التركية احتجاج رسمي يتّهم موسكو بانتهاك المجال الجوي التركي. وكان من الطبيعي أن تبلغ أنقرة قيادة الحلف الأطلسي في بروكسل بتفاصيل اعتراض مقاتلاتها من جانب القوات الروسية.
وعلى الفور، أعلنت موسكو أن الاختراق الجوي الذي أحدثته طائراتها لم يكن مقصوداً، وأن المقصود هو «داعش» ومواقع تجمعاته العسكرية. وأعربت قيادة حلف شمال الأطلسي عن استعدادها لإرسال قوات في حال تكررت الاختراقات، وأخذ التصعيد منحى أبعد من استهداف تنظيم «الدولة الإسلامية».
وعقد في بروكسل اجتماع طارئ حضره وزراء دفاع الدول الأعضاء الـ28، بغرض تقويم تطورات الحادث المقلق، ورصد انعكاساته السلبية على أمن الحلف. وبعد مناقشات طويلة، اتفق الحاضرون على تبني استنتاج مفاده أن غاية روسيا من وراء عملية الاختراق، إرغام تركيا على اتخاذ موقف أكثر ليونة من نظام بشار الأسد. ومعنى هذا أن المطلوب إحداث «تكويعة» سياسية تبعِد أنقرة من موقع المعارضة لاستمرار نظام البعث في سورية، بل هذا ما يطالب به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
قبل أن تتوقف اجتماعات حلف الأطلسي في بروكسل، حدث تفجير انتحاري مزدوج في العاصمة التركية أنقرة، أسفر عن سقوط أكثر من مئة قتيل و250 مصاباً. وكان ذلك قرب محطة القطارات، حيث تجمع حشد كبير قدم أفراده من ولايات تركية للمشاركة في تظاهرة دعت إليها منظمات المجتمع المدني.
ردود الفعل الغاضبة تعدت الحدود التركية لتصل الى مدينة دريسدن الألمانية، عبر تظاهرة قام بها نحو ستمئة كردي حملوا يافطة كتب عليها «أردوغان… إرهابي». وحجتهم أن «حزب العدالة والتنمية» الحاكم قد يكون وراء ذلك الحادث الدموي بهدف كسب مزيد من الأصوات في الانتخابات المقررة في أول تشرين الثاني (نوفمبر)، أي بعد أسبوعين.
وفي تعليقه على الاتهام بافتعال الحادث لزيادة شعبيته، هاجم الرئيس رجب طيب أردوغان «حزب الشعوب الديموقراطي»، واصفاً إياه بازدواجية المعايير. ثم أعلن أن الذين استهدفوا مواطنينا المدنيين في محطة القطار بأنقرة… هم الذين استهدفوا سابقاً جنودنا وشرطتنا وموظفينا الأبرياء.
وكان بهذه العبارات الهادفة، يتناول موقف «حزب الشعوب الديموقراطي» الذي يعتبره واجهة لمسلّحي «حزب العمال الكردستاني» بقيادة عبدالله أوجلان.
وكانت المعارضة التركية قد اتهمت أردوغان بافتعال الأحداث الأمنية من أجل العودة الى الانتخابات، بغرض الحصول على غالبية برلمانية تعينه على تشكيل حكومة بمفرده. علماً أن قادة المعارضة يتهمونه بمحاولة تعديل الدستور لصالح نظام رئاسي.
وتقول الاستطلاعات أن «حزب العدالة والتنمية» يحتاج الى 18 مقعداً إضافياً كي يتمكن من تشكيل حكومة بمفرده. ويبدو أن حاجة أردوغان الى هذه الغالبية سمحت له بإجراء اتصالات جانبية مع «منظومة المجتمع الكردستاني»، التي تعتبر أعلى هيئة تشرف على حركات التمرد الكردي. وأثمرت تلك الاتصالات، بدليل أن «حزب العمال الكردستاني» أعلن تعليق عملياته الى ما بعد الانتخابات.
بعد مرور يومين على حادث التفجير، اجتمع رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو مع أجهزة الأمن، ليوجه الاتهام الى ثلاث منظمات: «العمال الكردستاني» وتنظيم «داعش» والجبهة اليسارية المعروفة باسم «الجبهة الثورية لتحرير الشعب». لكن أوغلو ركز على «داعش» عقب حصوله على التفاصيل كاملة، كون التنظيم هو الجهة الأكثر استخداماً للعمليات الانتحارية.
كذلك، نشرت صحيفة «راديكال» تحقيقاً موثقاً ذكرت فيه اسمي الانتحاريين، وهما عمر دوندار ويونس الأغوز، شقيق الشيخ عبدالرحمن الأغوز، منفذ هجوم سروج، وصديق أورهان، منفذ تفجير ديار بكر.
وعلى رغم وجود قرائن حسية تثبت تورّط «داعش»، إلا أن أردوغان ظل مصراً على اتهام «الكردستاني» بتنفيذ التفجير. ويرى زعماء المعارضة أن لأردوغان حسابات أخرى ناتجة من دوره في مدّ «داعش» بالسلاح. وقد أشارت الصحف البريطانية والفرنسية والألمانية الى الحماية الخاصة والتسهيلات اللوجستية التي أمّنتها الحكومة التركية لكل العائلات والملتحقين بصفوف «داعش». وعندما قامت القوات الكردية بطرد «داعش» من مناطق مجاورة للحدود مع تركيا، اتهمها أردوغان بالعمل على تغيير التركيبة الديموغرافية لمصلحة إنشاء دولة كردية شمال سورية. وهو حالياً يشكك في دور بوتين، ويقول أنه وعد بشار الأسد باستعادة محافظة «هاتاي»، أي لواء الإسكندرون. هذا كله كي يستثير الشارع التركي، ويحرّض الجماهير على انتخابه باعتباره الحاكم الذي يحافظ على الإرث التاريخي لدولة كمال أتاتورك.
والثابت أن لواء الإسكندرون قد تعرض لتجاذبات مختلفة منذ نالت سورية استقلالها. وقد شملها ميثاق «حزب البعث» الذي وضعه ميشال عفلق، بضرورة الاسترداد، مثلما شمل فلسطين أيضاً. وعندما كلف الرئيس حافظ الأسد سفيره عدنان عمران، بمهمة التفاوض مع جماعة الرئيس التركي وقائد الجيش كنعان إيفرين، أوصاه بالحرص على عدم توقيع أي تنازل عن «اللواء السليب». وهكذا استمرت المفاوضات وقتاً طويلاً من دون أن يصل الفريقان الى حل.
والإجابة عن هذه الأزمة المستعصية، تظهر في الخريطة السورية المنشورة في الكتب المدرسية، ويظهر فيها أن لواء الإسكندرون جزء من سورية، علماً أن هذه المحافظة تضم كل الأعراق والطوائف كالعرب والأكراد والأتراك والأرمن والعلويين والتركمان والشركس والمسيحيين المشرقيين.
يُعتبر هذا اللواء في سورية المحافظة الخامسة عشرة، على رغم كونه منذ 1939 تابعاً لتركيا. ويسميه بعض المؤرخين أمثال ستيفن لونغريج، «الألزاس واللورين السورية».
كانت منطقة الإسكندرون تابعة لولاية حلب ضمن سورية العثمانية، ومثلت في المؤتمر السوري العام، على رغم اعتبارها دولة مستقلة في أعقاب صدور مراسيم التقسيم، غير أنه أعيد ربطها بالدولة السورية عام 1926، وعاصرت إطلاق الجمهورية السورية الأولى عام 1938، عندما قامت فرنسا «بخطوة غير مسبوقة واستفزازية»، إذ أعادت منح اللواء حكماً ذاتياً مع بقائه مرتبطاً من ناحية شكلية بالجمهورية السورية. ثم أعادت إلغاء هذا الرباط الشكلي سنة 1939، وانسحبت فرنسا في شكل نهائي، في حين دخلت اللواء قوات تركية، وقامت بضمّه وإعلانه جزءاً من الجمهورية التركية تحت اسم «هاتاي»، وهو ما يعتبر مخالفة لصك الانتداب الذي يلزم الدولة المنتدبة بالحفاظ على أراضي الدولة الخاضعة للانتداب.
غالبية سكان الإسكندرون كانت من عرب سورية الموزعين بين السنّة والعلويين والمسيحيين العرب والأرمن، ولم تتجاوز نسبة تركمان سورية فيه 39 في المئة.
بعد سلخ اللواء، نزحت الى دمشق وحلب وحمص واللاذقية أعداد كبيرة من عرب اللواء والأرمن، مع استثناء صغير لبلدة كسب الأرمنية التي كانت تابعة للواء، فعدلت المفوضية الفرنسية الحدود، بحيث تتبع محافظة اللاذقية. وأفضى سلخ اللواء الى انطلاق احتجاجات 1939 التي أفضت الى إطاحة حكومة جميل مردم، ثم استقالة الرئيس هاشم الأتاسي.
في السنوات التالية، اعتبر اللواء أرضاً محتلة، وساهم هذا الاعتبار في إبقاء سورية خارج مشاريع على مستوى المنطقة، مثل حلف بغداد لكون تركيا عضواً فيه. ثم توترت العلاقة مع تركيا مجدداً سنة 1957، الى درجة استدعاء الأسطول المصري الى اللاذقية للدفاع في حال اندلاع حرب. ولم يحدث أن اعترفت الحكومات السورية المتعاقبة بشرعية كون اللواء جزءاً من تركيا، إلا بإشارة عرضية قام بها بشار الأسد عام 2004.
في سورية القديمة، كانت أنطاكية عاصمة اللواء، عاصمة سورية ومركزها، ومقر بطريرك أنطاكية، الرأس المحلي للكنيسة السورية بشقيها البيزنطي والسرياني، ومنه خرجت شخصيات بارزة على مستوى العالم مثل إغناطيوس الأنطاكي، ويوحنا فم الذهب. أما في سورية المعاصرة، فقد خرجت مجموعة من الشخصيات التي لعبت دوراً مهماً على الصعيد المحلي، مثل رئيس الدولة صبحي بركات والمفكر زكي الأرسوزي والشاعر سليمان العيسى.
مع عمليات القصف التي ينفذها الطيران الروسي، وصلت الى سورية قوات إيرانية إضافية. والمؤكد أنها تعاونت مع القيادة الروسية التي مهدت الطريق الى مزيد من المكاسب، بهدف دعم الجيش النظامي المرهق والمشتت.
وأشار المراسلون الى الاستعدادات القائمة لتنفيذ هجوم على مناطق المعارضة في حلب. وأبلغت أنقرة قيادة الحلف الأطلسي بأخطار الهجوم الداعي الى تحرير ريف حلب الشمالي. ذلك أن استرجاع مدينة حلب وريفها ينسف مخطط تركيا القاضي بإنشاء منطقة عازلة على طول 115 كلم وعمق 35 كلم داخل الأراضي السورية. ومثل هذا المخطط وضعه الجيش التركي لمنع إقامة كيان كردي على حدود البلاد.
وأخذت قيادة الجيش الضوء الأخضر من الرئيس أردوغان، الذي أعلن في أكثر من مناسبة أنه لن يسمح بإنشاء دولة شمال سورية… أي على حدود تركيا الجنوبية، وأنه سيستمر في مكافحتها مهما كبرت التضحيات!
ومثل هذا الكلام يثير الكثير من المخاوف في شأن مستقبل تركيا التي تحتضن نحو 15 مليون كردي، حيث يقطن العدد الأكبر من الأكراد الموزعين على إيران (5 ملايين) وسورية (مليونان) والعراق (4.5 مليون) وتركيا. وفي حال موافقة الدول المعنية – أجنبية كانت أم عربية – فإن إحياء معاهدة سيفر (1920) الداعية الى قيام دولة كردية فوق نصف مليون كيلومتر مربع عند تخوم العراق وتركيا وسورية وإيران… يهدد تركيا بالتفكك.
وحول هذا الموضوع، يقول المراقبون أن الرئيس بوتين نجح في خلق خلافات مستحكمة بين دول حلف الأطلسي في شأن جزيرة القرم ومستقبل أوكرانيا. وهو حالياً ينشط في سورية من أجل إرباك الدول الغربية، ومنعها من تحقيق سايكس – بيكو آخر…