خذل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إن لم يكن الكل فمعظم، الذين راهنوا على أنه بصدد إحداث تغيير طفيف في موقفه وفي موقف بلده روسيا من الأزمة السورية نحو الأفضل، فقد كان اعتقاد هؤلاء أن هناك مستجدات؛ أولا في ساحة المواجهة على الأراضي السورية، وثانيًا بعد توقيع اتفاقية «النووي» بين إيران ومجموعة «5+1»، ستلزم موسكو حتمًا وبالتأكيد بالتخلي عن دعمها المطلق السابق للرئيس بشار الأسد. وانتهاج سياسة متوازنة، وإنْ بالحد الأدنى، تجاه هذه الأزمة وتداخلاتها المعقدة المتعددة، يجعل في الإمكان حلها سياسيًا، وعلى أساس ما تم التوصل إليه في «جنيف1»، وعلى أساس ألا يكون لهذا الرئيس السوري أي دور فعلي في المرحلة الانتقالية التي عدها رئيسية هذا المشروع الذي طرحه، وإنْ كان ليس رسميًا حتى الآن، المندوب الدولي ستيفان دي ميستورا.
لكن، وخلافًا لما كان متوقعًا، حتى من قبل ممن يعدون الأكثر تشاؤمًا والأكثر سوداوية، فقد صدرت عن موسكو على لسان الرئيس فلاديمير بوتين ولسان وزير خارجيته سيرغي لافروف سلسلة من التصريحات التي بددت كل تفاؤل المتفائلين، ودفعت كل المعنيين بهذه الأزمة، عربًا وغير عرب، إلى مراجعة حساباتهم، وقبل ذلك البحث عن مسببات وأسباب هذه «المتغيرات»!! التي طرأت على الموقف الروسي. والحقيقة أنه لم تكن هناك أي متغيرات فعلية، وأن هذا موقف روسيا الذي لم يجر عليه أي تبديل أو أي تغيير على مدى الأعوام الأربعة وأكثر الماضية.
ولهذا، ولأن الموقف الروسي تجاه الأزمة السورية يختلف عن الموقف الأميركي في أنه لم يطرأ عليه أي تغيير منذ البداية حتى هذه اللحظة، فإنه ما كان يجب التعاطي مع شؤون وشجون وضع مثل الوضع المعقد الذي أصبحت عليه سوريا، على أساس الأماني والرغبات، خاصة أن كبار المسؤولين الروس بقوا يؤكدون على ضرورة إدخال نظام بشار الأسد في أي تحالف جديد لمواجهة «داعش»، وبقوا يتمسكون بأن الجيش السوري، جيش هذا النظام، هو القوة الفعلية القادرة على مواجهة هذا التنظيم الإرهابي.
ثم ولعل من المفترض أنه أشعر المراهنين على مواقف مستجدة لموسكو بمزيد من الإحباط ومزيد من الخذلان، أن كبار المسؤولين الروس قد ذهبوا بعيدًا في تحدي الشعب السوري وتحدي عرب المواقف القومية الصحيحة وتحدي العالم كله، وأنهم لم يكتفوا بما كانوا قالوه، بل إنهم تحدثوا عن وجود عسكري روسي في سوريا، وإنهم أيضًا تحدثوا عن أن بشار الأسد هو من يمثل الشرعية، وأنه أبدى استعداده لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة. وكل هذا وكأن المشكلة في هذا البلد الذي بقي محكومًا بالحديد والنار منذ عام 1970 حتى هذه اللحظة، إجراء انتخابات تشريعية مبكرة لن تكون، هذا إن أجريت ولن تجرى أبدًا في عهد هذا النظام، ككل الانتخابات الشكلية التي تمت على مدى أكثر من الأربعين سنة الماضية.
لم يترك فلاديمير بوتين شيئًا يبدد انطباعات كل الذين راهنوا على أن هناك موقفًا روسيًا جديدًا تجاه الأزمة السورية، إلا قاله، فبالإضافة إلى التأكيد على وقوف روسيا عسكريًا إلى جانب بشار الأسد ونظامه، وبالإضافة إلى مواصلة المطالبة بإقامة تحالف جديد ضد «داعش» تكون سوريا جزءًا رئيسيًا منه، والهدف هنا واضح ومعروف، فإن آخر ما قاله الرئيس الروسي هو أن «اللاجئين السوريين لا يهربون من النظام، بل مما يسمى (الدولة الإسلامية)، وهجرة ونزوح هؤلاء اللاجئين مرتبطة بالسياسات الغربية الخاطئة في المنطقة، وليس بممارسات الرئيس السوري وسياساته»!!
والحقيقة أن هذا افتراء، لا حاجة لأي براهين عليه، على واقع الحال الذي أصبح من المسلمات التي لا نقاش فيها، والتي بات يعرفها العالم كله، وهو أن اللاجئين السوريين الذين هربوا من مدنهم وقراهم، والذين باتوا ينتشرون في أربع رياح الأرض، حيث ابتلعت بحور الظلمات الألوف منهم ومن هربوا تحديدًا من أدوات قمع هذا النظام، أي هذا الجيش الذي كان «عقائديًا»، وأصبح طائفيًا ومعه عشرات الميليشيات المذهبية ومن بينها حزب الله بالطبع، والذين فروا من ديارهم خوفًا من «داعش» ومن إرهابه وهمجيته كان بإمكانهم التوجه مؤقتًا إلى المناطق التي من المفترض أنها في حماية جيشهم وفي كنف دولتهم. وهنا ألا يعرف فلاديمير بوتين أن الذي بدأ بتقطيع أصابع الأطفال عام 2011 في درعا هو استخبارات بشار الأسد، حيث كانت تلك الحادثة المرعبة بمثابة شرارة انطلاق هذه الثورة التي اقترب عمرها من خمسة أعوام، والتي باتت مكوناتها «المعتدلة» تسيطر على نسبة من الأراضي السورية أكبر كثيرًا من التي يسيطر عليها هذا النظام الذي يعرف «الرفاق» الروسي أكثر من غيرهم، وأن قراره لم يصبح في يد رئيسه ولا في يد حكومته وإنما في أيديهم وعند الولي الفقيه في طهران.
إنه غير جائز، على الإطلاق، أن تتجاهل دولة كبرى، لها مكانتها الدولية المرموقة، حقائق الأمور، وتتجاوز واقع الحال، وتقول مثل هذا الكلام الذي يخالف قناعات كل سكان الكرة الأرضية بمن فيهم الشعب الروسي الذي ذاق الأمرين في حقب سابقة، لكنه لم يعانِ ما يعانيه الشعب السوري الآن، فبعض اللاجئين السوريين لا شك أنهم غادروا مناطقهم هربًا من «داعش»، ومن تجاوزات بعض التنظيمات المتطرفة الأخرى، لكن هذه الألوف المؤلفة التي غادرت وطنها سوريا وسلمت أرواحها وأرواح أطفالها لأمواج بحور الظلمات، إنما غادرت هربًا من هذا النظام الظالم، ومن التنظيمات المذهبية التي جرى استيرادها من كل حدب وصوب، وبالتالي فإن «الهجرة الراهنة» ليست مرتبطة بالسياسة الغربية «الخاطئة»، وإنما بهذه الحرب المدمرة التي يشنها بشار الأسد على شعب لم يعد شعبه، والبرهان على هذا الدمار الذي ألحقته البراميل المتفجرة التي حملتها المروحيات الروسية الصنع، وللأسف إلى دوما والزبداني وحلب وحماه وحمص ودرعا وضواحيها وإلى العاصمة دمشق نفسها.
وبالعودة إلى دعوة موسكو لإقامة تحالف ضد «داعش» يكون نظام بشار الأسد جزءًا منه، فإن الواضح حتى لأعمى البصر والبصيرة هو أن هدف هذه الدعوة والإصرار عليها هو «تسريب» هذا الرجل الظالم والقاتل والمسؤول مسؤولية مباشرة عن كل هذا الذي جرى ويجري في سوريا، إلى الساحة الدولية وإعادة تأهيله، وهذا مع أنه لم يكن مؤهلاً وفي أي يوم من الأيام ليكون عضوًا في المنظومة الرسمية الكونية، ومثله مثل هذا النظام الحاكم في كوريا الشمالية، الذي، تمجيدًا وتخليدًا له، جرت تسمية إحدى «حدائق»!! دمشق باسم مؤسسه كيم إيل سونغ.
ثم إن ما يجب أن يقال إن الذين استبعدوا تورط روسيا عسكريًا في هذا المستنقع السوري كما تورطوا في المستنقع الأفغاني، وأنا أحدهم، ربما أنهم ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه بسبب سوء التقدير وجهل حقيقة ما يقف خلف هذه الدوافع الروسية، وفي مقدمة هذه الحقائق المأزق الأوكراني الضاغط على عنق موسكو. هذا إلى جانب أن الصواريخ الأميركية، التي تحمل اسم وشعار حلف شمال الأطلسي، قد اقتربت من حدود الدولة التي، عندما كان اسمها «الاتحاد السوفياتي» في ذروة تألقه، قد وصلت صواريخها غربًا إلى كوبا على بعد «مرمى حجر» من قلب أميركا، كما يقال.
إن هناك مؤشرات كثيرة على أن روسيا ربما تلعب هذه اللعبة الخطيرة وتتورط عسكريًا في هذا المستنقع السوري، وإذا حدث هذا، وحقيقة أنه قد يحدث، خلافًا لما كنت أتصوره ويتصوره غيري سابقًا، فإن خروج الاتحاد السوفياتي من تورطه في أفغانستان سيكون «بردًا وسلامًا» مقارنة بخروج روسيا من «القطر العربي السوري» إن هي تورطت فعلاً في هذا البلد الذي بات يشبه عش الدبابير، وإن غاصت حتى عنقها في أوحاله.