طرح هذا السؤال قبل سنوات كان مثيراً للاستغراب. فالمسافة السياسية التي كانت تفصل بين رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع ورئاسة الجمهورية كانت بعيدة جداً. ولعل الانجاز الأول الذي حققه جعجع اليوم أنه قلّص هذه المسافة إلى حدّ كبير، وجعل ان مثل هذا السؤال لم يعد موضع استغراب وانما صار طبيعياً وواقعياً، واصبح سمير جعجع منتمياً إلى نادي المرشحين الجديين لرئاسة الجمهورية وتحول الى «مشروع رئيس» بغض النظر عن فرصه بالفوز والوصول إلى قصر بعبدا.
يُسجّل « للحكيم» أنه أحسن إدارة معركته الرئاسية، وخاضها بطريقة تخالف المألوف والتقليد في لبنان. فكان الوحيد الذي أعلن ترشيحاً رسمياً وعلنياً إلى رئاسة الجمهورية وجاهر بطموحه الرئاسي عن سابق تصور وتصميم من دون خجل أو وجل… وكان الوحيد بين المرشحين المضمرين الذي قدم مشروعه الرئاسي وبرنامج حكم شامل متكامل في بنوده الموزعة على كل المجالات والشؤون.
ومع ان برنامج الحكم ليس مطلوباً في لبنان حيث النظام ليس نظاماً رئاسياً وحيث الصلاحيات الفعلية ليست في يد رئيس الجمهورية الذي لا يتحكم بدفّة الحكم ولا يستطيع ان ينفذ ما يعد به لالف سبب وسبب دستوري، فان هذه الخطوة تُسجّل لـ «الحكيم» الذي أراد ان يكون منسجماً مع نفسه وقناعاته، شفافاً مع جمهوره ومناصريه.
بعد جلسة الانتخاب الأولى واليتيمة التي توافر فيها نصاب الثلثين والاقتراع. كرّس سمير جعجع نفسه مرشحاً فعلياً وجدياً عن فريق 14 آذار وعزّز شرعيته السياسية ومكانته وصدارته «المسيحية»، حيث واظب عبر كتلته النيابية وحلفائه في «14 اذار» على حضور جلسات الانتخاب التي كانت في الواقع جلسات اللانتخاب واقترب تعدادها في مسلسل ممّل من عتبة الثلاثين جلسة. ومن خلال هذا الحضور المنتظم والمسؤول نجح جعجع في اخراج كرة التعطيل وعدم انتخاب رئيس للجمهورية من ملعبه وملعب فريقه السياسي ورماها في ملعب الفريق الآخر.
مفاجأة «الحكيم» الثانية والتي لا تقل أهمية ووقعاً عن الاولى كانت في حياكة حوار وتفاهم مع خصمه الرئاسي المباشر «الجنرال» وفي التوصل إلى «ورقة نوايا ومبادىء» بين الطرفين, وكذلك في اقامة حوار مع «تيار المردة» برئاسة الوزير سليمان فرنجية ادى الى كسر الجليد وخفض منسوب التشنج بين الطرفين.
كان هذا بداية لفتح صفحة جديدة في الشارع المسيحي ولكسر حال العدائية والكراهية التي سادت على مدى سنوات وعقود بين «القواتيين» من جهة و«العونيين» و«تيار المردة» من جهة ثانية… وكانت النتيجة ان جعجع الذي كان مرفوضاً من شريحة مسيحية لم يعد كذلك وانما صار معقولاً مقارنة بغيره من السياسيين المسيحيين.
وهنا وإذا كان سمير جعجع نجح في تحسين وضعه مع اخصامه السياسيين المسيحيين (عون وفرنجية)، فان النجاح الأبرز والأهم الذي حققه «الحكيم» كان في مجال تعزيز «وضعه السنيّ» ايضاً إذا جاز التعبير. وهذا الأمر لم يتحقق فقط من خلال موقعه السياسي التحالفي مع «تيار المستقبل» وانما ايضاً وخصوصاً من خلال ما اكتسبه جعجع من «بعد وعمق» في العالم العربي، ومن اعتراف عربي بموقعه المتقدم والمميّز على الساحتين المسيحية واللبنانية، وما اكسبه ذلك من دور وحجم و«اطلالة» عربية ومعاملة له تعادل «معاملة رؤساء الدول» على النحو الذي حصل مؤخراً في السعودية وقطر والامارات وقبل ذلك في الكويت ومصر ودول اخرى… وما حصّله جعجع «عربياً» جاء نتيجة جهد ومثابرة ومواقف ثابتة لا تتغير مع تغيّر الظروف والمصالح.
سمير جعجع كان «محظوظاً» ايضاً في عدم المشاركة في الحكومة الحالية وفي ان لا يلحقه ما لحق باطرافها من حملات وهجمات، وهذا ما ساعده على تمييز نفسه عن سائر الطبقة «السياسية الحاكمة».
فهذه الحكومة، ولاسباب خارجة عن ارادتها في السياسات الكبيرة ولاسباب متصلة بسوء ادارتها في القضايا المعيشية واليومية التي تهم المواطن، اصبحت الحكومة الأقل انتاجية وعملاً، وصاحبة اكثر علاقة متوترة وتصادمية مع الشعب الذي نزع ثقته منها ورفع غطاءه عنها، وهي إذا استمرت فبفعل قوة الأمر الواقع لان لا بديل عنها ولا امكانية لتشكيل حكومة جديدة في ظل الفراغ الرئاسي والنزاع الحاصل في المنطقة.
عدم مشاركة «القوات اللبنانية» في الحكومة كانت « ضربة معلم» وساهمت إلى حدّ كبير في «تحييدها» وجعلها في منأى ومأمن وسط هذه الهجمة الشرسة وغير المألوفة ضد «الطبقة السياسية الحاكمة» والفاسدة. لكن في المقابل واقولها بكل محبة فان عدم مشاركة «القوات اللبنانية» في طاولة الحوار الوطني كانت «دعسة ناقصة» حتى لو حاول البعض وضعها في اطار الانسجام مع الذات والخيارات.
فلا يمكن لفريق مسيحي أساسي ان يبني سياسته المستقبلية على المقاطعة وان يُعفي نفسه من المسؤولية. خصوصاً ان الحوار اليوم هو حاجة وضرورة داخلية حتى لو ان الذي يحصل في المنطقة هو اكبر من قدرة كل القوى السياسية اللبنانية مجتمعة على حله.
ان موضوع رئاسة الجمهورية هو البند الأول على جدول اعمال هذا الحوار والممر الاجباري إلى سائر الملفات والقضايا. من هنا فالدكتور جعجع بصفته مرشحاً للرئاسة ومن موقعه كقيادي مسيحي اساسي معني بالملف الرئاسي يجب ان يكون جزءاً من عملية هذا الحوار وصولاً إلى الاتفاق على «رئيس توافقي» مقبول من كل اللبنانيين بعدما اظهرت المعادلة السياسية ان اياً من فريقيّ «8 و14 آذار» ليس قادراً على ايصال مرشحه الرئاسي…
وبالرغم من كل ما سجله سمير جعجع من نقاط وما احرزه من مكاسب معنوية منذ خروجه من الاعتقال فان بينه وبين الرئاسة هوّة سياسية يصعب ردمها في هذا الظرف وفي الوقت المتبقي. فإذا كان جعجع نجح في اكتساب ثقة اغلبية «السنّة» فانه ما زال يفتقد إلى ثقة «الشيعة» التي لا تزال ابوابهم شبه موصدة بوجهه لولا «خيط العلاقة» الرفيع مع الرئيس نبيه بري.
صحيح ان سمير جعجع لحقه ظلم وتجنٍ عندما استثني من بين كل قادة المليشيات وزعامات الحرب الذين يتشاركون المسؤولية ويتساوون في الأخطاء والارتكابات، وعندما وضع في السجن السياسي عقاباً له على خيارات وسياسات اقتنع بها ومارسها ولم يحد عنها… لكن الصحيح ايضاً ان سمير جعجع ما زال يدفع ثمن تلك الحقبة الظالمة من حياته. وهو يعرف ذلك ويدرك وضعه والحظوظ التي تحكمه، ولانه عارف ومدرك لم يتأخر ولم يتردد في ابداء الاستعداد للانسحاب من السباق الرئاسي والتخلي عن ترشيحه في حال توافرت امكانية وظروف الاتفاق على رئيس جديد للجمهورية.
سمير جعجع عرف كيف يخوض معركته الرئاسية ويعرف كيف ينسحب منها في الوقت المناسب، عرف متى يدخل حلبة السباق الرئاسي ويعرف جيدآ متى يغادرها وهو جاهز لكل الاحتمالات #0236
«المعادلة» اليوم تفيد ان وصول رئيس من «8 أو 14 آذار» شبه متعذر في ظل التوازنات القائمة. والواقع يقول ان فرص وصول الدكتور سمير جعجع او العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية غير متوافرة حتى لا نقول مستحيلة، وجعجع مدرك لهذا الواقع ويعرفه وهو يسير وفق المثل القائل: اذا اردت ان تطاع فاطلب المستطاع.