صعّدت المملكة العربية السعودية موقفها تجاه لبنان لأنّه امتنع عن التصويت، على القرار الذي رأت أنّها عليها اتخاذه في المنطقة، إلاّ أنّها عادت فأدانت مع بقية الدول الخليجية في مجلس وزراء الداخلية العرب، وفي البيان الختامي له الذي أطلق عليه إسم «إعلان تونس لمكافحة الإرهاب»، «الأعمال والممارسات الخطرة التي يقوم بها حزب الله الذي صنّفته تنظيماً إرهابياً اعتباراً لزعزعته للأمن والسلم الإجتماعي في بعض الدول العربية»، على ما ورد في البيان. ورفضت تونس هذا التصنيف، فردّ الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله على موقفها هذا بالشكر العميق.
لكن المسألة لا تقف عند هذا الحدّ، على ما ذكرت أوساط سياسية متابعة، فتصنيف «حزب الله» بالإرهابي من قبل دول الخليج، وتحديداً من قبل السعودية، يذهب الى أبعد من الحزب وأعماله وممارساته. فالمملكة التي لم تستطع أن تُغيّر شيئاً بما يحصل في سوريا، بعد الإتفاق الروسي – الأميركي على أخذ المسألة على عاتق الدولتين وحلّها بالتي هي أحسن، وإن كان عن طريق استخدام العنف، أو التدخّل العسكري فيها، اولاً من قبل التحالف الدولي، ثمّ من قبل الجانب الروسي، أرادت الضغط في لبنان، ليس لانتخاب رئيس الجمهورية العتيد، بل لعرقلة هذا الانتخاب.
وما ظهر من الأداء السعودي حتى الآن، من خلال السعي أولاً لإدانة إيران بسبب تدخّلها في الشؤون الداخلية لدولة عربية، ثمّ تصنيف حزب الله بالإرهابي، كما في تشجيع رئيس تيّار المستقبل النائب سعد الحريري على ترشيح رئيس تيّار المردة النائب سليمان فرنجية ثمّ تبنّي ترشيحه، يدلّ بوضوح على محاولتها «إقصاء رئيس تكتّل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون» عن رئاسة الجمهورية، خصوصاً لأنّه لا يمثّلها ولا يمثّل خطّها السياسي في لبنان والمنطقة.
بحسب الاوساط التي تؤكد ان السعودية تحاول ايضا التعويض عمّا خسرته في لبنان والمنطقة خلال السنوات الأخيرة، ومن أجل إثبات وجودها مجدّداً، تقوم بمثل هذه الممارسات علّها تحقّق بعض المكاسب. لكنّ السيد نصرالله قد ردّ عليها في تصريحه الأخير، ولم يعد من جدوى في أن تستمرّ فيما تُخطّط له لأنّه لن يجديها نفعاً. وإن كانت تسعى لأقصاء العماد عون عن السلطة، إلاّ أنّها، في المقابل، على ما شدّدت، لا ولن تستطيع بمفردها إيصال أي مرشّح آخر تريده هي الى قصر بعبدا.
فتوازن القوى، وإن كان مفقوداً اليوم في سوريا والعراق واليمن وسواها حيث الأزمات الداخلية مستشرية، إلاّ أنّه قائم في لبنان، وإلاّ لما تعطّل دور المؤسسات بحسب الاوساط. فلو كان بإمكان أي طرف أو فريق السيطرة على الأطراف الأخرى لكانت كلمته هي «الكلمة الفصل» في الاستحقاق الرئاسي، كما النيابي، وسائر الملفات الشائكة. غير أنّ توازن القوى هو الذي يجعل كلّ مكوّن مضطرا للاعتراف بشريكه في الوطن، ولا يمكنه بالتالي الهيمنة عليه وعلى مواقفه، أو إلغاء وحوده.
من هنا، فإذا كانت المملكة قد تقصّدت «معاقبة» لبنان بسلسلة الإجراءات التي قامت وتقوم بها، وأبرزها سحب هبة الثلاثة مليارات، وترحيل بعض اللبنانيين من دول الخليج، والتضييق على البعض الآخر الذي لا يزال يعمل ويقيم على أراضيها، كما الطلب من الخليجيين مغادرة لبنان على حد قول الاوساط، أو عدم المجيء اليه، فهي في الوقت نفسه، «تُعاقب نفسها». فالمليارات التي دفعتها لفرنسا سوف تُرسل لها مقابلها الأسلحة والعتاد، وقد قرّرت أن تذهب هذه الأخيرة لجيشها، ما يجعلها تخسر هذه الأموال التي كانت تنوي استثمارها في لبنان. ويُشكّك البعض في الوقت نفسه، بأن تكون فعلاً هذه الأسلحة ستذهب الى الجيش السعودي، وليس الى التنظيمات التابعة للمعارضة السورية والتي تُصنّف بالإرهابية. وفي مطلق الأحوال، فهي خسرت أموالها لأنّها لن تفيدها في أي من الحالتين بقدر ما كانت ستستفيد منها لو وصلت الى الجيش اللبناني.
في المقابل، فإنّ طرد بعض اللبنانيين من دول الخليج قد يكبّدها بعض الخسائر البشرية والمادية، وخروج الخليجيين من لبنان أو عدم المجيء اليه، من شأنه أن يتسبّب بالضرر المعنوي لهؤلاء كونهم يجدون فيه متنفّساً من الحرية يفتقدونه في دولهم. أمّا فيما يتعلّق بالعائدات، فتؤكّد الأوساط نفسها أنّه ليس من عائدات سعودية تُذكر في لبنان، منذ سنوات عدّة، الأمر الذي لا يتسبّب بأي قلق للبنان من الناحية المصرفية أو المادية.
وفيما عدا ذلك، فإنّ لبنان يريد الإبقاء على أفضل العلاقات مع الدول العربية كافة، بما فيها الدول الخليجية، على ما تؤكّد الاوساط، إلاّ أنّه يرفض فكرة الهيمنة والسيطرة، خصوصاً بعد «الربيع العربي» وإعادة رسم خريطة دول الشرق الأوسط، بعد تغيير بعض الأنظمة الديكتاتورية فيها. وهو بالطبع لا يريد أن تتمّ السيطرة عليه، في الوقت الذي تُطالب فيه سائر الدول العربية بالحرية، واستعادة الثقة بنفسها وبشعوبها وبمستقبلها.
من هنا، فإنّه على الدول العربية، كما أكّدت الأوساط نفسها، أن تعيد حساباتها انطلاقاً من أنّ الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة، قد ذهبت الى غير رجعة، وما تبقّى منها لا بدّ أن يرحل في السنوات المقبلة، إذ لا يجوز أن تطال رياح التغيير الدول العربية، وتترك الخليجية منها جانباً. فالشعوب نفسها لن تقبل بذلك، ولا بدّ من أن تقوم بالإنتفاضة في هذه الدول التي لا بدّ أن نراها تتدحرج الواحدة تلو الأخرى، وعندها لن يكون بمقدورها تسيير شعوبها، كما تشاء مجدّداً.
ورأت الأوساط أنّ الظلم مهما طال، إلاّ أنّه لن يدوم، لا سيما وقد دخلنا في زمن التغيير الذي تبدّلت فيه تقسيمات الدول وأدوار بعضها في المنطقة، ولكي تتمّ مجاراة هذا التغيير لا بدّ من نزع أفكار السيطرة التي لا تزال تتمسّك بها بعض الدول فيها. ويمكن الإنطلاق من فكرة الآحادية التي تمسّكت بها الولايات المتحدة لوقت طويل، الى أن تخلّت عنها في النهاية، بعد أن لمست عدم جدواها.