Site icon IMLebanon

هل لا تزال الحرب ممكنة في لبنان؟

سؤال يطرحه كثر في زمن أزمات المنطقة وحروبها: هل سيتحول لبنان ساحة حرب، مشابهة لحرب 1975؟ وفي السياق عينه، كيف يمكن أن نفسر أن لبنان لم يعد ساحة لحروبه ولحروب الآخرين، على رغم ما يحيط به من نزاعات لا نهاية لها في المدى المنظور؟

الواقع أن لبنان تغيّر، بعد أربعة عقود على اندلاع الحرب، وكذلك دول الجوار العربي. لبنان اليوم، مجتمعاً ودولة، لا يشبه ما كان عليه في مرحلة ما قبل الحرب، على رغم أن الانقسامات الداخلية ازدادت حدة، وإن تبدلت مضامينها وغاياتها. أما المنطقة فتشهد تحولات جذرية داخل الدول ومجتمعاتها، وهي غير مسبوقة في تداعياتها منذ سقوط السلطنة العثمانية. الحروب مشتعلة في العراق وسوريا وليبيا، وآخرها اليمن، ساحة الاشتباك السعودي ـ الإيراني. حروب سوريا والعراق وصلت شظاياها إلى لبنان، في الشمال والبقاع تحديداً. وانقسم اللبنانيون بين مؤيد ومعارض لهذا الفريق أو ذاك في ساحات القتال العربية، وشاركت «مجموعات جهادية» لبنانية في الحرب السورية وكذلك فعل «حزب الله». متاريس الحرب كانت قائمة في طرابلس وتم ضبطها، بينما المنطقة الحدودية في البقاع لا تزال عرضة لمواجهات عسكرية بين الجيش اللبناني والتنظيمات الإسلامية المتطرفة.

حرب 1975 بأبعادها الداخلية والخارجية كانت نتاج حقبة لم تعد قائمة في ظروفها وتفاصيلها، وتداخلت فيها التعبئة الشعبية، السياسية والعسكرية، مع التحولات التي طرأت على النزاع العربي ـ الإسرائيلي بعد حرب 1967 وتمركز المنظمات الفلسطينية المسلحة في لبنان. هذا الواقع تبدل. في الداخل، الدولة باتت حاجة للجميع، وإن بمضامين مختلفة، بعدما كانت مستهدفة لأسباب متباينة عشية اندلاع الحرب، وانتقل الخلاف اليوم من المشاركة في السلطة إلى الشراكة في العيش المشترك، كما أن النزاع العربي ـ الإسرائيلي، لا سيما الجانب الفلسطيني ـ الإسرائيلي منه، لم يعد مركزه لبنان. الصراع على الهوية، الذي شكل مصدر خلاف داخلي في منتصف السبعينيات، تلاشى، وإن كان لا يُختزل بمادة دستورية على قاعدة أن هوية لبنان العربية قد حسمت في الدستور المعدل بعد اتفاق الطائف، لا سيما مع صعود الهويات الدينية على حساب الهوية العربية. أما بالنسبة إلى الجانب الخارجي في بعديه الإقليمي والدولي فالمتغيرات تعدّ ولا تحصى. فمن كان يتخيل أن تتحول سوريا ساحة لحروب مدمرة، ومن كان يظن أن الشرخ المذهبي سينخر المجتمعات العربية، ومعه تمدد الحركات الجهادية السلفية؟ ومن كان يدرك أن إيران وتركيا ستصبحان لاعبين أساسيين في النظام الإقليمي العربي وأن واشنطن وطهران دخلتا مرحلة «الخطوبة» استعداداً «لزواج» نووي مرتقب؟ ولائحة التساؤلات حول هذه التحولات الكبرى لا تنتهي.

عندما كان لبنان الساحة الوحيدة الملائمة لنزاعات المنطقة طيلة خمسة عشر عاماً، جلب الاهتمام الدولي والإقليمي. وعندما انتشرت ساحات القتال في المنطقة قبل «الربيع العربي» وبعده، لم يعد يُحسب للبنان حساب. وهذا ما ساهم في إبعاد البلاد عن المواجهات المحتدمة. والدولة العظمى، التي انشغلت بأحداث لبنان في فترات سابقة بسبب ما يحتويه من نزاعات الغير وليس بالضرورة بسبب أهميته الذاتية، منهمكة حالياً بمسائل تفوق أهميتها الإستراتيجية قضايا لبنان وحتى حروب المنطقة، أبرزها المفاوضات الشائكة مع طهران حول أكثر الملفات حساسية للإدارة الأميركية ولحلفائها العرب وطبعاً لإسرائيل.

هذه التطورات لا تقلل من أهمية معطى آخر: إرادة معظم اللبنانيين والقوى السياسية الفاعلة، خصوصاً تلك التي لها امتدادات إقليمية، بعدم جر البلاد إلى الهلاك؛ وهي تسعى بجدية ومسؤولية عبر الحوارات المباشرة وخارجها أن تفصل بين ارتباطاتها الإقليمية ومصالحها وحرصها على إبقاء لبنان خارج الصراعات الإقليمية. وهذا تطور لافت يحمل في طياته دروساً من تجارب حروب لبنان السابقة التي جلبت دماراً لم يسلم منه أحد، بينما راهنت بعض القوى السياسية في حرب 1975 على «الحل العسكري». وقد لا يكون لبنان اليوم أكثر مناعة من قبل، إلا أنه أكثر إرادة لتحصين الداخل من تداعيات الأزمات التي تعصف بالمحيط، لا سيما تلك المرتبطة بالواقع الجيوسياسي الأقرب إلى لبنان. إبعاد لبنان عن صراعات المنطقة ساهم باستعادة الدولة بعض مكانتها لجهة تعزيز دور الأجهزة الأمنية والجيش اللبناني الذي بات المؤسسة الوطنية، الجامعة والفاعلة في آن. فللمرة الأولى منذ عقود يظهر توافق داخلي لدعم الجيش ودوره، وهذا تطور بالاتجاه المطلوب.

لسنوات خلت، اعتاد اللبنانيون أن يكونوا محور اهتمام العالم الخارجي، القريب والبعيد، عندما كانت خطوط الصدع الإقليمية تمر عبر لبنان، مع ما ترتب من جراء ذلك من أثمان باهظة على اللبنانيين، جماعات وأفراداً.. وما عليهم اليوم سوى أن يتأقلموا مع لا مبالاة العالم «بقصصهم» الصغيرة والكبيرة فينالوا بالمقابل راحة البال وسلماً أهلياً هشَّاً يناسب الجميع، ما دام السلام الحقيقي غير متاح.