كلّ المؤشرات توحي بأنّ الماكينة التي أكلها الصدأ على مدى السنوات الأخيرة بدأت تتحرَّك مجدداً. كثيرون يعتبرون أنّ هذا كافٍ لعودة الدولة إلى الحياة، بتوافق الجميع. لكنّ هناك مَن يسأل: هل هو فعلاً توافقٌ على استعادة دولةٍ كانت مُصادَرة، أم هو حلقة أخرى من تقاسم مستمرّ للدولة ومواردها وخيراتها… بالتوافق؟
بعد جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، المنتجة في ملفات النفط والاتصالات وسواهما، سُئل بعض الوزراء عن بعض الثغرات القانونية التي اعترت قراراتها وتمّ إمرارها لمجرّد أنّ هناك توافقاً عليها.
وهنا دار الحديث خصوصاً عن الآلية التي إعتُمدت لإزاحة المهندس عبد المنعم يوسف من المنصبين اللذين كان يشغلهما في آن معاً. فتعيين البديلين لم يراعِ الأصول القانونية القاضية بالمرور عبر مجلس الخدمة المدنية.
والمثير أنّ الرجل خرج من «الموقعين» من دون أن يفهم الناس شيئاً عن الحيثيات، وعمّا إذا كان السبب هو تجاوزات ارتكبها. وإذا كان الأمر كذلك، لماذا لم يُحَل ملفه إلى القضاء؟.
لم يكن أيّ من هؤلاء الوزراء قادراً على الإجابة على السؤال عمّا إذا كانت الحكومة ستغضّ النظر دائماً عن ثغرات مماثلة، وستعمّم الطريقة التي اعتمدتها لتبديل يوسف «من حواضر البيت» أم ستتمسّك بالأصول الدستورية والقانونية…
وفي تعبير آخر، لم يكن هؤلاء الوزراء قادرين على الإجابة: هل إنّ ذهنية إمرار القرارات بالمحاصصة هي التي ستتحكَّم بالحكومة في كلّ مرّة، لمجرد أن يكون هناك توافق حول ملف معيّن؟
أحد الوزراء قال: كنّا مضطرين إلى إقفال ملف يوسف بهذه الطريقة، لأنّ الأمر كان جزءاً من التسوية التي بها تمّ التوافق على انتخاب الرئيس ميشال عون وتأليف الحكومة الحريرية. لقد كان ذلك سابقاً لانطلاق العهد، وهو سيكون آخر المخالفات من مرحلةٍ سابقة وليس أوّل المخالفات من مرحلة آتية.
على رغم هذا الكلام، هناك حديث قوي في عدد من الأوساط: صحيح أنّ من غير المناسب استقبال القرارات المثمرة التي انطلق بها العهد بالتشكيك. ولكن من حقّ الناس الذين عاشوا تجارب كثيرة مماثلة في السابق أن يخافوا. فالفساد هو الطريق الأسهل و«الأربح» للجميع، خصوصاً إذا تمّ تحت عنوان التوافق والتقاسم. ولماذا يعذّبون أنفسهم بما هو أصعب وأقلّ ربحاً؟
المؤشرات التي أثارت هذه الأسئلة، بعد الجلسة، تنطلق من سرعة التوافق على الملفات الكبيرة العالقة منذ سنوات، كالنفط والاتصالات. فهل تعبِّر هذه السرعة عن إرادة حقيقية في تسهيل انطلاق الدولة أم عن واقع «القسمة» بالتراضي؟
وهل ما أثار النائب وليد جنبلاط هو فعلاً شعوره بأنّ أبطال هذه «القسمة» لم يحسبوا حسابه كما اعتادوا أن يفعلوا دائماً، لأنذ الرجل خسر دوره كـ«ثقّالة» يحتاج إليها كلّ راغب في ترجيح موقعه في اللعبة؟
الواضح هو أنّ المرحلة «دسمة» بالغنائم، ومن ملامحها استعادة كثير من المال الخليجي الضائع أو المهدور. وليس مستغرَباً أن تكون جولة عون الخارجية الأولى على السعودية وقطر، برضى الجميع.
فالمال الخليجي حاجة للاستقرار الاقتصادي المطلوب، والذي سيُترجَم بترتيبات خلّاقة، من ملامحها خفض الفوائد على قروض مصرف الإسكان لتحريك السوق العقارية، خصوصاً إذا واكبت ذلك عودة المستثمرين الخليجيين.
هناك أسئلة كثيرة تتعلّق بملفات شائكة، وبعضها عمره عشرات السنين. فماذا عن الوقائع والمعلومات والوثائق الفضائحية التي رمى بها السياسيون الجالسون اليوم إلى طاولة مجلس الوزراء، بعضهم في وجه بعض، والتي تبيّن أنّ معظمها صحيح؟ هل سيحاسبون بعضهم بعضاً أم سيتغاضون عن الفضائح في اعتبارها أيضاً «جزءاً من مرحلة سابقة»؟
فماذا عن الكهرباء والسدود وتلزيمات الميكانيك والمرافق والمشاريع عموماً وأموال النازحين؟ وهذا السؤال يصبح أكثر إلحاحاً مع الاستعداد لدفعة التعيينات المرتقبة، والأهم مع التحضير لقانون الانتخاب.
في «التركيبة التوافقية» السائدة اليوم، ليس هناك حُكم ومعارضة، وليست هناك سلطة تشريعية وأخرى تنفيذية. كلّ المجلس النيابي موجود في مجلس الوزراء، وكلّ الحكومة موجودة في البرلمان. وليس هناك مَن يخبِّر عن المعارضة، باستثناء أقلية.
وبعدما خسر رئيس الجمهورية دور الآمر الناهي الذي كان له في نظام الجمهورية الأولى، جاء «الطائف» ليوزّع الأدوار على رئيسَي المجلس والحكومة أيضاً. وتوحي انطلاقة العهد اليوم بنوع من «الترويكا» المستعادة.
فالجميع يشارك في كلّ شيء. وإذا أنتجت الطبقة إياها قانون الانتخاب الذي يكرّس إقامتها سعيدةً لسنوات أخرى، فسيكون محكوماً على عهد عون أن يكون مثيلاً للعهود السابقة.
وواقع «الخلطة» الحاكمة، «بالمَونة» و«التراضي»، تحت شعار التوافق ستكرِّس المشكلة، حيث لا أحد يحاسب أحداً، لا على الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل. وهنا التحدّي: هل يلتزم أصحاب الوعود بضرب الفساد أم يركبون الموجة كسواهم؟ الناس ينتظرون، قلوبهم على أيديهم، ومن حقهم أن يخافوا…