ليست الأجواء السياسية متفائلة وورديّة إلى الحد الذي يتحدّث عنه البعض على المستويات العليا والوسطى والدنيا، فالأزمة عميقة، وربّما ستزداد عمقاً في قابل الأيام والأسابيع المتبقّية من هذه السنة، خصوصاً إذا تأخّرت التسويات الجاري تحضيرُها لأزمات المنطقة التي تسير على إيقاع التوافقات الدولية هنا والاختلافات هناك.
رئيس الحكومة سعد الحريري المتريّث في تقديم استقالته بناءً على تمنّي رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بعدما كان اعلنَها تلفزيونياً من الرياض في الرابع من الشهر الجاري، ذاهبٌ، حسب قول بعض السياسيين في تيار «المستقبل»، الى هذه الاستقالة حتماً ما لم يحصل على ضمانات معيّنة تنتج تسويةٍ سياسية جديدة، أو على الأقلّ تنقّيح التسوية القائمة التي جاءت بعون الى رئاسة الجمهورية وبه الى رئاسة الحكومة، وهذه الضمانات يطلبها وحلفاءَه الاقليميين، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، لأنّ تريثه في تقديم الاستقالة (خطّياً هذه المرة) هو في رأي كثيرين تريّث سعودي أيضاً، في انتظار ضمانات حول «النأي بالنفس» قال ديبلوماسيون إنّ رئيس الجمهورية و«حزب الله» وحلفاءَه أبدوا الاستعداد لتقديمها خلال الاتصالات التي حصلت عشية «يوم التريث» الذي صادفَ عيد الاستقلال.
ويؤكّد هؤلاء «المستقبليون» أنّ «الجو الغربي يؤيد موقف الحريري بالذهاب الى الاستقالة ما لم يغيّر «حزب الله» أداءَه بالتزام جدّي لسياسة الدولة «النأي بالنفس» وعدم التدخّل في الأزمات الاقليمية ولا سيّما منها الأزمة اليمنية».
ويقول سياسيون يتابعون التطورات الجارية منذ اعلان الحريري الاستقالة من الرياض، إنّ «حزب الله» وحلفاءَه وفي مقدّمهم «التيار الوطني الحر»، يخطئون في الحسابات إذا اعتقدوا أنّهم إذا احتضنوا الحريري ودعموه يستطيعون تعويضَه حاجته الى الدعم والرعاية السعوديين،لأنّه مهما نال من احتضان ودعمٍ من أيّ جهة أخرى سيبقى في حاجة لرعاية الرياض ودعمها، وعلى حد قول البعض «إنّ آل الحريري هم سعوديون حسَباً ونسَباً بكلّ المعاني والمعايير، ولا يمكن أحداً أن يجذبهم اليه تحت عنوان انّ ذلك يمكنه من تحقيق مكسبٍ سياسي على حساب مصالحهم المتنوّعة أوعلى حساب المصالح السعودية في لبنان والمنطقة».
ويضيف اصحاب هذا الرأي: «إذا كان العاملون على اجتذاب الحريري إليهم والى المحور السياسي الذي ينتمون اليه، يعتقدون انّهم يستطيعون النجاح في ذلك استناداً الى موقفه الوسطي، فإنّهم يخطئون، لأن الرَجُل اذا خُيِّر بين السعودية وإيران فإنه يختار الرياض مهما كلّف الامر».
ويقول هؤلاء ايضاً «إنّ «حزب الله» إذا تعاطى بمرونة مع ما يَطلبه الحريري من ضمانات، وكانت لديه «بحبوحة» تتيح له تقديمَ هذه الضمانات، او التنازلات كما يسمّيها البعض، فإنّ ازمة الاستقالة تنتهي بسلاسة، ولكن حتى الآن ليس واضحاً بعد كيف سيتصرّف «الحزب» في هذا المجال، وهل سيكون موقفه مرِناً أم لا على رغم تشديده على الهدوء ودعوتِه الجميع الى التهدئة والحفاظ على الاستقرار على ما يُعلن امينُه العام السيّد حسن نصرالله، وتحديداً منذ نشوء أزمة الاستقالة؟».
لكن اللافت، في رأي هؤلاء السياسيين، انّ مطالب الحريري التي شكّلت اسبابَ استقالته، تأتي في وقتٍ محلي وإقليمي ودولي يحتاج فيه كلّ طرف معني الى الأوراق التي يمسك بها في لحظة التفاوض، لأنّ المنطقة برمَّتها دخلت في مرحلة التفاوض الجدّي حول الأزمات والملفات، وهي مرحلة لن يعوقَها وصول هذا الوفد الى المفاوضات وتأخّر ذاك.
فالجانب الروسي الذي بات اللاعبَ الاوّل في المنطقة لم يعد في مقدوره التأخّر في استثمار ما حقّقه من إنجازات، في الوقت الذي يقول له الجانب الاميركي: «صحيح انّك حميتَ وحلفاءك النظام في سوريا لكنّك لا تستطيع إنجاز التسوية في سوريا، وحتى الأزمات الاخرى في المنطقة بلا توقيع واشنطن، إذ من دون هذا التوقيع لا تحقّق ربحاً حاسماً، وربّما تستطيع ان تطلق ورشة الإعمار في المنطقة، وفي سوريا تحديداً، من دون الولايات المتحدة الاميركية ودول الخليج، ولكنّك لا تستطيع إنجاز تسوية سياسية من دون الرضى الاميركي».
ويستدلّ هؤلاء السياسيون إلى أنّ الأزمة لم تُحسَم مستندين إلى قول الحريري أمس من أنه سيستقيل إذا لم يُظهر «حزب الله» الحياد في النزاعات الإقليمية ولا يتدخّل خارجياً. ويقولون إنّ خلفية هذا الموقف ربّما تدلّ الى تفاهمٍ ما حصَل بينه وبين القيادة السعودية قبَيل انتقاله من الرياض الى باريس فبيروت او بَعده، يتعلق بالتسوية السياسية المراد تجديدها او تعديلها بما يزيل اسبابَ الاستقالة، تحت طائلة الاستقالة نهائياً في حال عدم استجابة المعنيين لهذه الاسباب.
وفي رأي السياسيين إياهم، انّ البعض يقرأ التطورات التي تشهدها المملكة العربية السعودية بالتزامن مع ازمة الاستقالة، بطريقة خاطئة، ويقول هؤلاء «أن ليس هناك مِن ترابط بين الأمرين، لأنّ استقالة الحريري بأسبابها الداخلية والاقليمية شيء، والورشة الإصلاحية التي يقودها وليّ العهد السعودي الامير محمد بن سلمان لتحقيق «رؤية المملكة 2030» شيء آخر، وهي رؤية يُراد منها تحديث المملكة لتكون المملكة العربية السعودية الثانية، إذ لم تشهد هذه المملكة أيَّ تحديث جدّي منذ منتصف القرن الماضي، بحيث إنّ ولي العهد يريد أن ينقلها إلى واقع جديد يكون منسجماً مع روح العصر، وهذا ما يفرض على المملكة إعادة النظر في دورها الاقليمي والدولي وفي علاقاتها ضمن الأسرة العربية والإسلامية وعلى الصعيد الدولي.
ويَجزم كثيرون بأنّ المساعي والاتصالات جارية علناً حيناً وغالباً بعيداً من الاضواء لإنتاج تسويات للأزمات الاقليمية، وخصوصاً للأزمة اليمنية التي يُرجّح البعض ان تكون الآن على ابواب جولة تصعيد كبيرة قد تكون الاخيرة قبل الدخول في التسوية، بحيث تخرج هذه الأزمة من دائرة التوازن السلبي الى آفاق حلٍّ لا يمكن إنتاجه بمعزل عن الرياض، ومن هنا فإنّ ما يُطرح حالياً من آراء ودعوات الى حوار سعودي ـ إيراني قد يكون أصحابها امتلكوا معطياتٍ ما حول مآلِ الأزمة اليمنية الى حلٍّ ليس ببعيد.