النتائج الانتخابية في لبنان تحتاج إلى قراءة معمّقة، ليس من أجل لبنان فقط، لكن للمنطقة بكاملها ومستقبل تطورها القريب والمتوسط، وكما هي العادة فإن الأفرقاء السياسيين اللبنانيين، كلٌ يعتبر نفسه هو «المنتصر» في هذه الجولة، فلا بدّ إذن من خاسر، الخاسر الأكبر هو الشعب اللبناني العريض، في الداخل والخارج.
صاحب تلك الانتخابات مظاهرُ كثيرة يمكن رصدها، فقد كان من المتوقع أن تحدث «مشاغبات» قد تصل إلى استخدام السلاح الفردي في بعض مقار التصويت، وكان اللافت، وهذا لا يحدث في أي انتخابات أخرى، أن يبدأ المذيع أو المذيعة في وسائل الإعلام اللبنانية في الساعات الأولى من التصويت يوم الأحد الفائت بالقول «والحمد لله لم يحدث بعد شيء يُعكر سير الانتخاب»! أي أن المتوقع هو أن يحدث شيء ما! وعلى الرغم من مرور يوم الانتخاب بشكل معقول من السلاسة، فإن «التنمر» السياسي، البعض يسميها بلطجة، كان واضحاً، فضرب شلة بلطجية للمرشح علي الأمين قبل أيام من التصويت، هي ليست الوحيدة في هذا التنمر؛ الأمر الذي جعل من محمد سلمان حمية ينسحب من السباق في دائرة بعلبك في اللحظات الأخيرة، وكما قال «درءاً للفتنة»! وهذا يعني الضغوط الهائلة عليه، هذا ما ظهر على السطح، في العمق استخدمت كل الأدوات «في الترغيب والترهيب» من أجل حشد المناصرين والقيام إما بذر بعض المال السياسي، أو التنمر على الآخرين لتحقيق «الانتصار»!
من الأرقام المتاحة حول عدد الناخبين الكلي، يمكن قراءة شيء من التذمر من قطاع كبير من الناخبين اللبنانيين يبلغ أكثر من نصف الناخبين المسجلين، وهو تذمر على الأوضاع الداخلية اللبنانية وعلى «قواعد اللعبة» المركبة بين الأفرقاء السياسيين، من كل الأطياف، لا توجد مجتمعات تحقق نسبة عالية في التصويت، لكن أخذاً بظروف لبنان ومحيطها الجغرافي، كان المنطق يقود إلى احتمال أن يقبل المواطنون على صناديق الاقتراع بنسبة أكبر مما ظهر على صعيد آخر، فإن «حدوث الانتخابات» بحد ذاتها ظاهرة لافتة، الأفرقاء كانوا يحضرون إلى «تطور جديد» في المنطقة، كل من زاوية مختلفة، فكتلة الاستقرار «المستقبل والقوات والكتائب» ومناصروهم، وربما حتى فريق رئيس الجمهورية «التيار»، يحضرون أنفسهم إلى «تغيير ما في سوريا» وتغيير ما في المنطقة، قد يقود في النهاية إلى سلم أهلي طويل، يؤسس إلى انتعاش في الاقتصاد اللبناني من أكثر من زاوية، أولها ما يجلبه الاستقرار من تنشيط للسياحة والاستثمار، وثانياً بعض الرجاء أن يتطور البحث عن النفط والغاز في الأراضي البحرية اللبنانية كي يجلب معه بعض الدخل، الطرف الآخر الذي هو الثنائي الشيعي كما يسمى إعلامياً، وهو فريق يقرأ المشهد قراءة مضادة، إن «الانتصار هو لمحور إيران/ سوريا الأسد» وبالتالي يمكن أن تكون الشوكة «الثنائية» هي الرافعة للمشروع الإيراني في المنطقة، وربما المحتكرة للعمل السياسي والاقتصادي القادم في لبنان؛ لذلك فإن هذا الطرف اعتبر حصوله على ذلك الرقم من أعضاء البرلمان «انتصاراً» واجب الاحتفال به بشكل قريب إلى الفوضى في شوارع بيروت!
كثيرون يعتقدون، وبخاصة من المحللين اللبنانيين، أن الانتخابات التي جرت 2018 هي في الأساس «داخلية» وهي ليست كذلك، بل هي إقليمية وربما عالمية أيضاً! فلبنان هو محطة الاختبار، ومكان التناطح ومختبر القوة والإرادة معاً، الإقليمية والدولية، يُسهل كل ذلك فسيفساء «كونفيدرالية الطوائف» المركبة في هذا الحيز الجغرافي الذي يسمى لبنان، والدليل على ذلك كل تلك المؤتمرات الدولية المتعاقبة، التي انعقدت من أجل استقرار لبنان الاقتصادي والسياسي، بدأ بمشروع جاك شيراك عام 2002 حتى أصبحت أرقام «مؤتمر باريس لدعم لبنان» غير محددة العدد! وانتهاء بروما وبروكسل، وغيرها من العواصم، في جهد دولي يراهن على الاستقرار، ليس بعيداً عنه وجود القوات الدولية في الجنوب، من أجل إبقاء رأس لبنان فوق الماء؛ حتى لا يغطس أكثر في الفوضى المجاورة. الأفرقاء الإقليميون والدوليون مهتمون كثيراً أن تبقى المعادلة اللبنانية «تحت الضبط النسبي» وألا ينجرف لبنان إلى فوضى، كما حدث في ليبيا، أو حتى سوريا المجاورة، كما لا يتسبب في اضطرب الأمن الإقليمي. العقبة هنا أن فريق «الاستقرار» لا يقدم للنخب المؤيدة له «أدوات» تسهل من مهمة الدفاع عنه، من هذه الأدوات الشفافية والإنجاز وتقليل «الفساد» وأخيراً فصل السياسية عن التجارة! في غياب كل ذلك يبقى الدفاع عن ذلك الفريق مُعوقاً!
أمام تلك المعادلة الصعبة فشلت الإدارات اللبنانية المتعاقبة، ما بعد مقتل الحريري الأب، أن تقدم مشروعاً يرضي الحد الأدنى من متطلبات المواطنين اللبنانيين، والذين يعتقدون أن «وطنهم» هو «منارة الشرق» فنسبة العاطلين عن العمل مرتفعة بشكل مَرضي، تتحدث الأرقام عن 30 في المائة وأكثر من نسبة البطالة، كما أن فضائح الكهرباء وتلوث المياه «لبنان الدولة الثانية في العالم في تلوث المياه، كما تقول الأرقام الدولية» وفوق ذلك «فضيحة المخلفات» وغيرها.
المشروع الإيراني في لبنان يعمل على إعاشة وتجنيد عدد ليس قليلاً من المكون الشيعي في لبنان، لكن ذلك له تأثيرات سلبية ليس على لبنان «الوطن فقط»، لكن على عدد الشيعة في لبنان! فالمشروع يساهم في إرسال المجندين إلى حتفهم، بالتالي فإن حجم السكان من هذا المكون مهدد بالتناقص التدريجي، إما في زجهم في حروب إقليمية وتحوط الجوار والعالم من تقديم فرص عمل لهم، فالخيار هنا للكثير منهم، إما أن يلتحقوا بكتيبة القتال، وقد لا يعرف أين سوف يحارب، وما إذا كان سوف يعود أم لا؟ أو الانضمام إلى جحافل البطالة، أو تغيير انتمائهم على الورق، للحصول على فرص عمل في الجوار! والملاحظ أن بعض فريقهم يساهم في تعطيل قيامة لبنان كدولة مستقلة، وبعيدة عن التحيز لمشروع ما، بسبب الدخول النشط في أتون الصراع الإقليمي، والذي هو أولوية لهذا الفريق قبل أي تنمية أو استقرار؛ لأن قراره النهائي ليس بيده، إنه بيد الولي الفقيه!
الماضي قصته طويلة، أما المستقبل فهو بيد الأكثرية إن تشكلت، وهي اليوم من المفروض أن تكون أكثر نضجاً من السابق، في مكونيها المسيحي والإسلامي وفي مكوناتها العرقية الأخرى، والخيار أمام لبنان إما أن يكون «بيونغ يانغ» أو يكون «سيول»، أما أن يكون الاثنتين معاً فهو المستحيل نفسه. في حال اختيار بيونغ يانغ، فإن مشكلات البطالة والتلوث والهجرة والعزلة، وربما تحويل المدن اللبنانية إلى خرائب، هو الاحتمالات الأكثر قرباً إلى التحقق، أما في حال الذهاب إلى سيول، فإن الأمر سوف يفتح باب التنمية والاستثمار والتقدم والسياحة والإفادة القصوى من الموارد البشرية والمادية، شرط أن تكون الإدارة مُنجزة، خالية ما أمكن من الفساد! لا أحد يهزأ بعقول ناضجة أن يقال للجمهور إن «الاثنين يمكن أن يتعايشها معاً»! ذلك ضرب من العبث، صار لا بد من كشفه. الانتخابات الأخيرة في لبنان هي إعادة تموضع لإدارة المشكلات العميقة، لا مساهمة في حلها، وهي ليست معدية للجوار، وإن استمر الوضع كما هو عليه، فإن أي مشاركة في الإدارة الجديدة، هي القيام بشهادة زور، يتحمل وزرها جميع المشاركين فيها من أصحاب الحسابات الضيقة، والتي هي بالضرورة لا تصلح شيئاً في لبنان، ولا تسقي عطش جمهور اللبنانيين بكافتهم للاستقرار والإنماء.
آخر الكلام:
في كل منطقة الشرق الأوسط، هناك متشددون ضد الأنظمة، عدا النظام الإيراني، لا يوجد متشددون ضده، المتشدد في إيران هو النظام!